السقف المحسوب لتذمر الفنانين السوريين

2021.03.15 | 05:39 دمشق

img_20210307_141901_356.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان الجيش يحاصر مدينة درعا ويقتحمها، ويمنع دخول الأغذية والأدوية إليها؛ عندما نشرت كاتبة السيناريو ريما فليحان، على صفحتها في فيس بوك، نداء عاجلاً إلى الحكومة، سيُعرف باسم «بيان الحليب»، لأنه ركّز على معاناة الأطفال «الذين لا يمكن أن يكونوا مندسين في أي من العصابات»، وطالب «بدخول إمدادات غذائية من مواد تموينية وأدوية وأغذية أطفال بإشراف وزارة الصحة السورية أو الهلال الأحمر».

في الساعات الأولى من يوم الجمعة ذاك، 29 نيسان 2011، وفور نشر البيان؛ قفز عدد الموقعين عليه بشكل مطّرد. وخلال يوم فقط وصلوا إلى 1200، أكثرهم فنانون ومخرجون وكتّاب دراما وإعلاميون ومثقفون، ليفتتح حملة من الترويض القاسي لهذا الوسط أدت، في نهاية المطاف، إلى إعلان بعض رموزه انحيازهم إلى مطالب المحتجين بشكل صريح واضح ومغادرتهم البلاد، وانزلاق آخرين إلى التشبيح وترويج دعاية النظام، وانكفاء أكثرية الفنانين ومجاوريهم في المهن إلى مواقع رمادية.

كانت الثورة المصرية الطازجة حاضرة في الأذهان وقتئذ. وقد أصدر ناشطوها «قائمة عار» بأسماء الفنانين الذين تورطوا فأيدوا حكم «المخلوع» حسني مبارك وقمعه خلال أيامها القليلة. لوهلة بدا أن هؤلاء النجوم قد جُللوا بالعار فعلاً، وفقدوا جزءاً كبيراً مؤثراً من جماهيريتهم، مما ألقى بظلال جدية من القلق حول مستقبلهم. ولم تكن هذه الحسابات غائبة عن أذهان كثير من الموقّعين على «بيان الحليب» السوري، مثلما حركت الدوافع المبدئية والتعاطف البديهي آخرين منهم، في حين ظن فريق ثالث أنه يلعب في المساحة المسموح بها، خاصة أن لغة البيان إنسانية ووطنية و«معقولة».

رسم شهر أيار من ذلك العام حدوداً صارمة لكلام الفنانين، وأفهمهم أنهم وسط معركة تحكمها عقلية «من ليس معنا فهو ضدنا»

غير أن هذا لم يكن رأي ماهر الأسد الذي كانت قواته، في الفرقة الرابعة التي يقودها عملياً، تلعب دوراً مركزياً في العملية العسكرية، وكان، من جهة أخرى، شديد العناية بالوسط الفني، لأسباب مزاجية خاصة، يعدّه أحد الإقطاعات التي يتسلى بضبطها في البلد. وفور استضافة إذاعة محلية شهيرة بعض الموقّعين على البيان، ليشرحوه، اتصل شخص من مكتب العميد شقيق الرئيس بمدير الإذاعة موبخاً إياه بلهجة شديدة، قائلاً: «1200 سوري وقعوا عالبيان... 1200 مشنقة رح تتعلق لهم بساحة الأمويين»! وعلى القنوات التلفزيونية الحكومية وشبه الرسمية تقاطر عدد من الموقعين ليتراجعوا عن موقفهم ويعتذروا عن «خيانتهم» غير الواعية.

رسم شهر أيار من ذلك العام حدوداً صارمة لكلام الفنانين، وأفهمهم أنهم وسط معركة تحكمها عقلية «من ليس معنا فهو ضدنا»، فانكفؤوا إلى مساحة طالما ألفوها من النقد الغائم للفساد و«الحكومة»، متباكين على البلاد التي دمرتها «حرب» متصاعدة مسجلة ضد مجهول تقريباً، إن لم يرغبوا في الاستزادة من خير النظام وعاره بتبني روايته والمشاركة في أعمال تنتمي فعلياً إلى ما يشبه الإعلام الحربي، وهو ما فعله بعضهم بصفاقة طليقة وبعض آخر بحكم شبه الضرورة.

غير أن نظرة إلى طبيعة تكوين هذا الوسط في سوريا، وتاريخه، تفيد في فهم جذور تناغم معظمه مع هذه المواقف المراوغة بعد التجربة «الطائشة» اليتيمة التي غامر فيها عبر «بيان الحليب».

باتخاذ لحظة تأسيس التلفزيون السوري كنقطة علام، منتصف 1960، جامعاً روافد من فرق مسرحية عديدة ومغنّين من نواد ليلية وهواة من مهن متباعدة، فإن وظيفة التسلية كانت الأبرز في أعماله الدرامية والفنية، في حين تُركت القضايا الجادة والمبدئية للخطاب البعثي، المتوتر ثم المتخشب، عقب استيلاء الحزب على السلطة عام 1963 وتسخيره وسائل الإعلام وإنشاء «المؤسسة العامة للسينما» التي اعتنت بإنتاج أفلام عقائدية قليلة، تاركة الساحة الشعبية الملونة لسينما القطاع الخاص التي شهدت عصراً ذهبياً من الرواج، والابتذال، خلال السبعينيات، شارك فيه أبرز نجوم تلك المرحلة في أفلام غنائية ربما يتمنون اليوم لو أنها تحذف من تاريخهم.

نقطة العلام الثانية، والأكثر إشكالية، كانت تأسيس «المعهد العالي للفنون المسرحية» عام 1977 على يد مثقفين وأكاديميين رغبوا في إطلاق عصر جديد من الدراما بتأهيل أبطالها علمياً. وإلى قوائم خريجي المعهد، أو من يخجلون لأنهم ليسوا كذلك، ينتمي معظم الوسط الفني الحالي، بعد أن حصد الموت أكثرية «جيل الرواد» من نجوم الستينيات والسبعينيات الذين قدموا إلى الشاشة دون تأهيل متخصص، يقودهم الشغف أو المصادفة.

بدأ المعهد بضخ خريجيه في الحياة الفنية منذ مطلع الثمانينيات، وما زال يفعل. وبعكس أسلافهم اتسم هؤلاء بالثقافة المتخصصة، المسرحية أساساً، وبتبني أفكار أيديولوجية وسياسية، يسارية غالباً، وبالانتماء إلى نادٍ نخبوي مفترض زاد من انفصاله عن الناس ما تراكم لدى منتسبيه من نجومية ترافقت مع ثراء سريع صنعته فورة الدراما السورية وانتشار مسلسلاتها التلفزيونية في العالم العربي بعد تأسيس شركات إنتاج خاصة عديدة. وقد كانت لهذه الخلطة غير المتناغمة من الثقافة الستانسلافسكية وأشلاء الرطانة اليسارية والبذخ السائب وتورم الذات والعلاقات المنافقة والسهر مع أبناء المسؤولين/ أصحاب الشركات؛ آثار ضارة على أكثر شخصيات هذا الوسط. فصاروا، فعلياً، أشبه بماهر الأسد الذي تولى عليهم كما كانوا.

انحازت أغلبية الوسط الفني إلى مصالحها وإلى تكوينها الأساس

وفي بلاد غاب عنها دور الشخصيات العامة المؤثرة من قادة الرأي أو زعماء الأحزاب أو المرجعيات، احتل الفنانون واجهة المشهد بلا جدارة ودون تماسك أخلاقي. ومن هنا فإن قلة منهم فقط اتخذت مواقف معلنة في رفض الإجرام والتوحش وحشر المدنيين في المخيمات، في حين انحازت أغلبية الوسط الفني إلى مصالحها وإلى تكوينها الأساس. إما فرقة من أرباب المعازف والقيان لا تجد لنفسها وظيفة أهم من تزجية وقت السلطان وإسعاد ضيوفه وتسلية شعبه إن أراد، أو بنى هجينة أشد تعقيداً وأكثر خبثاً، تغازل الناس إبان أزمتهم الاقتصادية بتصريحات تتقصد أن تبدو شجاعة بينما تلعب بمهارة في الحلبة المتاحة وعينها على عدّاد الترويج ومدى نجاح استثمارها المدروس في معاناة السكان.