الثورة السودانية والانقلاب عليها

2021.10.27 | 06:43 دمشق

anqlab-alswdan-2019-frans-24.jpg
+A
حجم الخط
-A

حدث الانقلاب في السودان لينهي الخطأ الذي وقعت فيه الثورة حينما وافقت على دورٍ سياسيٍّ للمكون العسكري في 2019. بتاريخ 21 تشرين الحالي بدأت الاحتجاجات تتوسع في المدن السودانية، منذرة المكون العسكري بألا ينجز الانقلاب. مشكلة المكون المدني أنه لم يمتلك الأدوات القمعية لتدعيم سلطته، وظلّ "الجيش والأجهزة الأمنية والشرطة" تحت سيطرة المكون العسكري، وهذا ما ساعد الأخير على إنجاز انقلابه بسلاسةٍ. يَعلم عبد الفتاح البرهان و"حميدتي" أن مشكلتهم الحقيقية هي مع الثورة، ولهذا وجدنا خطاب البرهان يتضمن تمييزاً بين المكون المدني، ويُحمله مشكلات السودان، ويحاول استقطاب الناشطين وزعماء الثورة للانفصال عن تنظيماتهم، وأنّه سيشكل حكومة كفاءات لا أحزاب، وسيعلن عن انتخابات برلمانية، وسيكون للثوريين النصيب الأكبر فيه.

أعلن البرهان عن انقلابٍ عسكري كامل، وجمّد النقاط الأساسية في الوثيقة الدستورية، وفرض حالة الطوارئ، وحل مجلس السيادة والحكومة، وبالتالي أنهى المرحلة الانتقالية، والتي وصلت إلى لحظة تسليم مجلس السيادة للمدنيين في تشرين القادم. تضمن إعلان الانقلاب التراجع عن لجنة الإشراف على متابعة هيمنة "تمكين" رجال البشير وتسلطهم ونهبهم للدولة، ونقلت التقارير الإخبارية أن التظاهرات التي كانت أمام القصر الجمهوري تتضمن عناصر من مؤيدي البشير. إن البرهان بانقلابه يحاول إعادة السودان إلى عهدة البشير وسياساته، ولكن ذلك غير ممكن، ولهذا تجدّدت الثورة في 21 تشرين الحالي، والآن ترفض الانقلاب وتتوسع في المدن.

بقيت قوات التدخل السريع مستقلة وتابعة لـ حميدتي هذا، والذي يبدو أنه لا يأمن جانباً لا من المكون المدني ولا العسكري، ولهذا ظلّت قواته تحت إمرته بصورة مباشرة

ربما يكون من الصحيح أن موازين القوى فرضت مشاركة العسكر في السلطة الانتقالية في 2019، لا سيما أنهم قاموا بالانقلاب على البشير وضحوا بابن عوف، وبالتالي أصبحوا جزءًا من الثورة. طبعاً هذا التحليل خاطئ جملة وتفصيلاً، فـ "حميدتي" زعيم قوات التدخل السريع، وهو مجرم حرب في دارفور، والبرهان من قادة الجيش تحت حكم البشير، والاثنان بارزان في الجيش وبالتالي، لا يمكن أن يكونا ثوريين، وهما، وحتى نقيِّ العظام من فلول البشير والنظام القديم. لنقل إن موازين القوى فرضت ذلك المكون، فإن الانقلاب الحالي يوضح خطل تلك الخطوة، وإن تصحيحها الآن لم يعد ممكناً عبر مبادرات من المكون المدني أو الخارج، كما تمّ!، بل عبر التظاهرات الثورية، حتى الوصول إلى صيغة دقيقة، يتنازل فيها العسكر عن أية طموحات سياسية، ويتم إبعاد أية شخصيات لعبت دوراً في الانقلاب، وتوحيد الجيش، وهذا ما لم ينجز بالمرحلة السابقة، حيث بقيت قوات التدخل السريع مستقلة وتابعة لـ حميدتي هذا، والذي يبدو أنه لا يأمن جانباً لا من المكون المدني ولا العسكري، ولهذا ظلّت قواته تحت إمرته بصورة مباشرة.

يأتي انقلاب البرهان، بإطار تراجع الثورات العربية، ووصول الثورات المضادة إلى السلطة، كما تمّ في مصر 2013، وفي تونس مؤخراً، وكما يتم محاولة تعويم النظام السوري عالمياً. إذاً ما فعله البرهان وقيس سعيد والسيسي يأتي بإطارٍ واحد، ويكمل المشهد الحروب الأهلية في ليبيا واليمن.

إن درس السودان يقول برفض أية تدخلات للعسكر في السياسة من جديد؛ ففي سوريا، يتم التهيئة لمجلسٍ عسكري انتقالي بقيادة مناف طلاس، وأن ذلك المجلس هو المنقذ الوحيد للبلاد، والقادر على إجراء تسوية "أهلية" لمشكلات المجتمع، والتي أدى إليها الصراع الطويل منذ 2011. إن درس السودان، والانقلاب على اللبنات الأولى للوصول إلى الحكم الديمقراطي، يقول بضرورة مواجهة هذه الفكرة، وكل مشروع سياسي أحادي واستبدادي، والدعوة إلى مشاريع سياسية ديمقراطية ومواطنيه، والتمسك بالحقوق والحريات العامة، وبالتالي يمكن تسليم المرحلة الانتقالية إلى شخصيات مدنية نزيهة ومعروفة بأخلاقيتها العالية ومقبولة من كافة أطياف المجتمع، وبرفضها لأية مرجعيات غير ديمقراطية.

العسكر والطائفيون والأنظمة المستبدة هي المفضلة لدى الدول المحيطة بالعالم العربي وفي إدارات الدول العظمى، وروسيا والصين تعلنان تأييدهما هكذا أشكال من الحكم جهاراً نهاراً. إن هذه السلطات مهمتها الوحيدة النهب والفساد والافساد وقمع الثورات ورهن البلاد للخارج، وبالتالي، وفي الوقت الذي يجب تأييد الثورة السودانية ورفض الانقلاب يجب التمسك بالديمقراطية كشكلٍ وحيد للحكم وللسياسة، وبمبادئ المواطنة كمرجعية للديمقراطية، ونحو تحييد الدين عن الدولة.

إن الخلافات بين مكوني السلطة الانتقالية، كَبّلَ المكون المدني عن القيام بوظيفته في التحوّل الديمقراطي، كإنهاء ملف النهب والسيطرة على أملاك الدولة من رجالات البشير، ولم يتم تعيين نائب عام ولا رئيس للقضاة، وكذلك لم تتشكل المحكمة الدستورية (لاحظ الأمر ذاته في تونس قبل انقلاب قيس سعيد)، ولم يتوحد الجيش كما ذكرنا، وأيضاً لم تُستكمل التحقيقات في مجزرة القيادة العامة 2019، وتُتهم بها قوات التدخل السريع، وقضايا كثيرة.

إن الانقلاب الحالي قطع كافة أشكال التسويات بين المكونين، وصار يفترض انتقالاً كاملاً للسلطة إلى المكون المدني

أخطر شخصية الآن في السودان هي محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات التدخل السريع، وللرجل صلات قوية في السعودية والإمارات خاصة، وقد يواجه أية محاولات لتفكيك قواته أو دمجه بالجيش، وإذا كان يقيم شراكة مع البرهان وقادة الجيش فإن الأخيرين سيكونان عرضة للاعتقال أو القتل على يديه في حال تعاظمت الضغوط الإقليمية والدولية الرافضة للانقلاب أو اشتدت الثورة، وهو ما يحدث الآن، وبالتالي قد نشهد بالأيام القادمة حمامات دم جديدة، وسيكون زعيمها حميدتي بشكل مباشر، وسيفعل ذلك من أجل الوصول إلى تسوية جديدة تتقبل وجوده في قيادة الجيش.

إن الانقلاب الحالي قطع كافة أشكال التسويات بين المكونين، وصار يفترض انتقالاً كاملاً للسلطة إلى المكون المدني، وهذا ما سيكون كلمة السر لأيّة محاولات لتجاوز الوضع الراهن. الوضع الآن في السودان هو بين تعزيز الانقلاب لسلطته، وهذا غير ممكن، وبين تجدّد الثورة، وهذا ما سيتعاظم، وحول ذلك ستكون المبادرات المحلية والإقليمية والدولية، فهل سيتجاوز السودان هذه المرحلة بأقل كلفةٍ من الدم والدمار والزمن؟