الثورات والانقلاب عليها من فرنسا إلى روسيا وصولا إلى سوريا

2023.03.24 | 06:26 دمشق

الثورات والانقلاب عليها من فرنسا إلى روسيا فسوريا
+A
حجم الخط
-A

بعد عقد على اندلاع الثورة الفرنسية وفي التاسع من تشرين الثاني لعام 1799 قام نابليون بونابرت بالانقلاب على رفاقه القدامى في الثورة ليعلن نفسه ديكتاتورا ومن ثم امبراطورا لفرنسا ولدول أخرى غزتها جيوشه، فقتل نصف مليون في الحرب والتمرد الدموي، وسيطر نابليون على أوروبا ناشراً فيها أفكار الثورة بالقوة، كما فعل لاحقا كل من ستالين وماو والخميني، وخلال أكثر من 80 عامًا من عمر الحقبة الثورية الفرنسية قامت أكثر من انتفاضة على النظام الإمبراطوري ومن داخله أيضا، فارتكب كثير من المذابح على خلفية سياسية ودينية وطائفية.. وأخيرا بعد ما يقارب من قرن كامل تمكن الفرنسيون من بناء دولة الثورة والمواطنة والحقوق الاجتماعية.

أما ثورة 1917 الروسية فقد جعل منها البلاشفة خلال أيام انقلابا دمويا إذ ذبحوا الأسرة الحاكمة بالكامل، لكن ما يُسجل للينين وللبلاشفة أنهم قاموا بانقلاب-ثورة سياسية حزبية على جيش القيصر وأنهوا الحرب فكانت ثورة 1917 بذلك أول ثورة سياسية وجماهيرية في روسيا على العسكر.

لكن البعض لهم رأي آخر، يقول باحث أميركي: "في ثورة 1917 أمل المصلحون الليبراليون في أن تتمكن الثورة السياسية من استباق ثورة جياع يمكن أن تدمر البلاد. فوعدت الجمهورية الجديدة بمنح الحقوق السياسية للجميع؛ مع تأجيل العمل الصعب لإصلاح الأراضي إلى وقت لاحق. لكن في غضون أشهر، استولى البلاشفة على السلطة ثم حلوا أول برلمان ديمقراطي في روسيا. تلا ذلك حرب أهلية وحشية دمرت البلاد وشهدت ظهور ديكتاتورية. مع ذلك ثمة محللون يعتقدون أن الإنجازات التي تحققت في مجالات التعليم والعلوم كانت تستحق المجاعات التي ضربت البلاد، والمخيمات وفرق إطلاق النار".

والحقيقة أن لينين مارس "ديكتاتورية ثورية" فراح يقنن الحريات السياسية ويحاصر خصومه السياسيين، وهو ما فعله ستالين لاحقا، بضراوة قل نظيرها، بحق رفقائه وخصومه في الحزب والدولة، وضد الشعب نفسه، إذ ارتكب مذابح وحشية لم تعرفها روسيا من قبل، فأرسل ملايين الروس للموت في معسكرات اعتقال سيبيريا القاحلة.

خارج روسيا انتشرت كتابات لينين وستالين على السواء، ولأنها تعطي إرشادات خاطئة للثوار خارج روسيا فقد حرصت أجهزة وأنظمة عربية عديدة على غض النظر عن تداول مؤلفات لينين وستالين السياسية في العالم العربي لغاية وحيدة، هي منع المثقفين المحليين من صنع فكر ثوري محلي حقيقي، وبالتالي منع أي ثورة حقيقية في البلاد العربية، وهو ما يمكّن العسكريين وجميع أنواع الانقلابيين والمغامرين والمهووسين من الاستيلاء على السلطة مرة بعد أخرى في معظم البلدان العربية (باستثناء الخليج المطوّب لأميركا حتى نهاية البترول)

في مصر وتونس:

تحولت الثورة في مصر خلال عام ونصف الى انقلاب كما جرى سابقا عبر التاريخ في كل مكان تقريبا.. جوهر الانقلاب كان عسكريا مخابراتيا بالطبع، لكن شكله شعبي ثوري - حركة "تمرّد"-أوصل مصر بعد سنوات إلى الكارثة فراح حاكم مصر المطلق يبيع أراضيها قطعة بعد أخرى، وأرهق الجنيه بالديون وبمشاريع غير منتجة وخلال عشرة شهور ما بين 2022 و2023 خسر الجنيه مئة بالمئة من قيمته، وخسر المصريون حريات نادرة لم يعرفوها إلا في زمن محمد مرسي.

أما الانقلاب في تونس على الثورة فقد استغرق ما يقرب من عشر سنوات حتى اتضح للعيان، وهذه المرة انقلاب دستوري برئيس مدني- وليس بانقلاب عسكري على الثورة كما فعل نابليون- تدعمه دولة عربية مسؤولة تقريبا عن معظم الانقلابات العربية وعن دعم الثورات المضادة في السنوات العشر الأخيرة.. والمفارقة أن هذه الدولة العربية يحكمها بشكل شبه كامل جهاز مخابرات إقليمي.

إجهاض الثورة المدنية في سوريا

على شاكلة الثورة الروسية التي حمت التطرف وقتلت مؤيدي التسوية والإصلاح، وسحقت أصوات المعتدلين، ورفعت السلاح بطريقة مؤذية ضد الجماعات الخطأ، اتجهت الثورة السورية بعد 2013 إلى العنف إذ أجبر النظام الناشطين السلميين على اللجوء إلى بلاد مجاورة، وقتل واعتقل البقية، وأطلق من سجونه سراح المقاتلين الإسلاميين الذين كانوا بتوجيه وحماية منه يقاتلون أميركا في العراق، وكذلك تقبل عودتهم إلى صفوفه عبر المصالحات الكثيرة منذ 2016.

في الحرب السورية التي ولدت من الثورة استخدمت جميع التكتيكات المعروفة في تاريخ الصراعات: المواجهات الكلاسيكية بين الجيوش، حروب العصابات بأنواعها، الحرب النفسية، الدعاية السوداء، المجازر المروعة على أسس سياسية أو مناطقية أو عرقية.

استخدمت المذهبية كأداة لإلهاب الحماس وسحق الخصم من قبل الطرفين المتصارعين، الميليشيات المتقاتلة في سوريا، ميليشيات الإسلاميين السوريين (المنقلبين على مبادىء الثورة السورية المدنية) ضد ميليشيات الإيرانيين المذهبية. انتهت الثورة بالنسبة للإسلاميين السوريين بإقامة إمارات مناطقية أشهرها إمارة إدلب بحكومتها التي يرأسها رجل دين عسكري (على شاكلة حكومة طالبان).

استئصال الثوريين في أوروبا:

لتحافظ أوروبا على استقرارها، بوجود أكثر من مليوني سوري في أراضيها، كان من المهم جدا للحكومات الأوروبية ضبط أي مجموعة ثورية سورية ومتابعتها لحظة بلحظة للحيلولة دون أي تواصل مع مجموعات ثورية محلية (ماركسية أو أناركية، أو حتى بيئية) لا سيما ألمانيا أو السويد كبلدين مستقرين لم يعرفا الثورات منذ قرنين تقريبا.. ومن المهم أيضا تشتيت أي مجموعة ثورية لا يمكن خرقها والسيطرة عليها والحيلولة دون اجتماعها وعملها بإغراق أفرادها بمتطلبات العمل والتعلم والسكن والإجراءات البيروقراطية، أو خرقها وتحويلها إلى خلية إسلامية يمكن استخدامها لاحقا عند أي استحقاق سياسي داخلي أو إرسالها إلى الشرق الأوسط في مهام قتالية واستخبارية كما جرت العادة خلال عقود.. في كلا المهمتين نجحت الأجهزة الأوروبية بشكل تام بل مثالي.. لكن الضمان الأهم والأكثر أمانا للمستقبل مما سبق هو منع نجاح الثورات في بلادها أي في مصر وسوريا والعراق والمغرب وتونس وإيران بأي وسيلة ومهما كان الثمن، فنجاح أي ثورة شعبية في العالم العربي هو كارثة حقيقية تهدد الأمن القومي لأي بلد أوروبي، ولأي بلد خليجي ولأي نظام حكم آسيوي، إن نجاح ثورة في بلد عربي يعني أن ثورات أخرى ستندلع في بلدان عربية، ونجاح ثورة أو أكثر في منطقة أو قارة يوحي لشعوب في قارات أخرى بالانتفاض والنزول إلى الشوارع لإسقاط نظام الحكم القائم.. وهذا ما لن يقبل به أي نظام حكم في الشرق أو في الغرب.