التّسلط المفخّخ بالاستحالات: طالبان وحزب الله بعد الانسحاب الأميركي

2021.08.29 | 07:22 دمشق

da4a3fd3fa2099d107d55ffc214843331627043517.jpg
+A
حجم الخط
-A

الثّابت الوحيد في السّياسة الأميركيّة منذ فترة أوباما وصولا إلى مرحلة بايدن يكمن في النّظر إلى الخارج بوصفه بقعة سقطت من العالم ومن الزّمن. الرّغبة في الانسحاب من كلّ مناطق الانتشار وترك الخصوم والحلفاء على حد سواء يتدبّرون شؤونهم بنفسهم لم تكن سياسة ينتهجها رئيس ديمقراطيّ ليعود رئيس جمهوريّ ويقوّضها، بل باتت من المسلّمات الّتي يتنافس الرّؤساء على تطبيقها.

وعليه فإنّ ما ينظر إليه العالم بوصفه انسحابًا أميركيًّا وهروبًا إلى الدّاخل ليس وفق القراءة الأميركيّة خروجًا من العالم بل عودة إليه، وتكريس ما يقع خارجه على أنّه جغرافيا الموت والتّخلف والعالم الّذي سقط من الوجود.

مشهد المواطنين الأفغانيّين الّذين تعلقوا بالطائرات الأميركيّة المغادرة وفقدوا حياتهم بسقوطهم من الأعالي بعد إقلاعها صنع لهذه المقاربة مشهدا لا يمكن لواقعيّته الفظة والّتي تفوق الخيال سوى أن تكرس ترسيم الحدود بين العالم الأميركيّ المشتهى الّذي يستحق المخاطرة بالحياة في سبيل الدّخول إلى جنته، وبين عالم طالبان الّذي تتركه أميركا خلفها، والّذي لا يمكن أن يكون سوى موت خالص.

تعلم أميركا أنّها تركت وراءها عالمًا تشتهي طالبان السيطرة عليه، ولكنها لا تستطيع إدارته ولا الحفاظ على الحد الأدنى من استقرار شؤون العيش فيه، ولا بناء مؤسسات ولا الحفاظ على ما تبقى منها

لا يوجد درجات متفاوتة من الموت، ولا يمكن التحايل عليه والتعايش. طالبان بالنسبة لمن خبروها ليست تيارا إسلاميّا يمكن التّفاهم معه والبحث في درجة تشدّده وما يمكن أن يطرأ عليه من تحولات، تسمح بنشوء تسويات منتجة للعيش. تمثُّل طالبان لا يخضع لاعتبارات السّياسة وتعريفاتها التّقليديّة وغير التّقليديّة بل يقع خارجها، فهو يستحضر الرّعب والمفتوح واستحالة العيش. إنّه الجحيم الخالص والمقفل والنّهائي.

تعلم أميركا أنّها تركت وراءها عالمًا تشتهي طالبان السيطرة عليه، ولكنها لا تستطيع إدارته ولا الحفاظ على الحد الأدنى من استقرار شؤون العيش فيه، ولا بناء مؤسسات ولا الحفاظ على ما تبقى منها.

شكل السلطة التي تبيعها أميركا لطالبان هي سلطة التّمويت وحسب، وهذا النموذج يستبدل منظومات الإبادة الشاملة والحروب المباشرة ويتفوق عليها في وحشيته لأنه لا يترك مجالا للنجاة ويحول البلاد المنكوبة بنفوذ التيارات المتطرفة إلى كيانات لا يمكنها سوى أن تنتج المجازر.

هكذا تختنق الشعوب وتختنق تلك التيارات بنفوذها الّذي لا يمكن أن ينتج معنى خارج إباحة القتل وتعميم الخراب، في حين تتفرغ أميركا لإدارة معركتها التي لا يمكن وصفها بأنها معركة نفوذ مع الصين، بل يمكن تحديدها بدقة أكثر في أنّها معركة نشر معالم زمنها وتوكيده، بحيث يصبح الخارج عن شروطه والتزاماته وقوانينه خارج العالم تلقائيًّا.

من المفيد في هذا المجال التّنبيه أن القراءات الّتي تربط صراعها مع الصّين في المضمار الاقتصادي تتجاهل واقعا أثبتته مشهديّة الخروج من أفغانستان، وهو يقول بوضوح إنّه حتى لو ضاقت الهوّة الاقتصاديّة بين الصين وأميركا أو وصلت إلى درجة التوازن، فإن ذلك لا يؤثّر على تفوق أميركا أو يهدده بشكل جدي لسبب بسيط وعميق، وهو أن الصين لم تصبح، ولا يرجّح أن تصبح في المستقبل، بلدا يشتهي الناس العيش فيه والتّمثّل بثقافته وتقاليده.

ما ينطبق على طالبان ينطبق على لبنان الّذي انسحبت أميركا منه على جميع المستويات وتركته نهبًا للنفوذ الإيراني عبر حزب الله. بات الحزب مثقلا بأساطيره الّتي تتفكك كلّ يوم، خصوصًا أنّ اشتداد وتيرة الأزمات في الدّاخل اللّبناني بالتّوازي مع شلّ قدرة إيران على تمويله جعلته ينكفئ إلى الداخل محاولا تعويض النّقص الكبير في التمويل.

تحول بذلك إلى أبرز ناهبي المال الشيعي والمال العام، والمسؤول الأول عن الفساد والاحتكار والتهريب، بشكل لم يعد بإمكانه إدارته وتوظيفه ضد باقي المكونات، لأن توسعه المتمادي طال بشكل خاص بيئتة الحاضنة قبل سواها.

أدى ذلك إلى كسر هيبته الأمنية قبل كل شيء، فما أفرزه الصراع المتجدد مع عشائر عرب خلدة كشف عن تغيير كبير في معادلة القوة، إذ إنّ الحزب لم يكن قبل هذه اللحظة يحتاج إلى أكثر من إيحاء أو تهديد حتى تتخذ الأمور الوجهة التي يريدها. توالي الأزمات وعدم قدرته على التّنصّل من مسؤوليته عن التسبب بها أمام الرّأي العام اللبنانيّ عمومًا والشّيعي خصوصًا، حوّلت تلك السّطوة إلى أزمة مفتوحة وجديّة ومصيريّة.

أمام التّحدي الّذي فرضته أحداث خلدة والّتي سقط له فيها قتلى وقع الحزب في فخ أسطورته الخاصّة، فبينما كان الحاج وفيق صفا مسؤول وحدة التّنسيق والارتباط يحاول تهدئة الأمور كان جمهور الحزب المعتاد على التّنمّر على كلّ المكوّنات الأخرى والنّطق باسم فائض القوّة يطالبه بالإبادات. وقع الحزب المتألّه في دوامة أسطرته لصورته ولم يعد قادرا على تجنّب الخسارة في كل الأحوال، ففي حال فتح حربًا ضد عرب خلدة فإنه لا يستطيع التّحكم في مساراتها وخواتيمها، وإذا لم يفعل فإن جمهوره سيصاب بإحباط مكلف، وستشرع الأساطير المؤسّسة لولائه بالتهاوي بشكل لا يمكن توقعه ولجمه.

قرار الحزب كان بتحويل الأنظار نحو العنوان الاقتصاديّ والمعيشيّ وتصوير نفسه على أنه المنقذ. تحوّل نصر الله فجأة من مقاوم و محرر مزعوم لفلسطين إلى مستجر للنفط، وراح يطلق وعودا باستقدام البترول من إيران المحاصرة والمثقلة بالعقوبات.

ولكن حتى هذا العنوان بدا كاريكاتوريًا مع الغياب الواضح للتّنسيق بينه وبين راعيه الإيراني. ما تمّ التّرويج له على أنه مكرمة إيرانيّة اتّضح أنه ليس سوى محاولة مزدوجة تهدف إلى تعويم النّظام الإيرانيّ من جهة، والحصول على دولارات طازجة يموّل بها الحزب نفسه.

النّاقلات الّتي أكّد نصر الله توجّهها إلى لبنان من دون توفّر معلومات حول صحة هذا الموضوع وما إذا كان ممكنًا، لن تكون مجانيّة بأي حال من الأحوال، فقد  انتشرت أخبار تفيد أن رجال أعمال شيعة دفعوا ثمن البترول وخرج المتحدث باسم  وزارة الخارجيّة الإيرانيّة سعيد خطيب زاده بتصريحات يؤكّد فيها أن إيران تعتبر الشّعب اللبناني ثريّا وأنّها لا تمانع بيعه الوقود.

السّيطرة الّتي مُنحت لحزب الله على الجغرافيا اللّبنانيّة جعلته مولّد أزمات وأرضا لا تصلح سوى للموت والخراب

مثل هذا السيناريو يكرر ثنائية الخسارة المحتومة للحزب في كلّ الأحوال ففي حال تم استقدام النّفط فانه سيكون مطالبًا بحل شامل للأزمة في كل البلاد بناء على فحوى تصريحات أمينه العام، وهو ما يعلم الجميع أنه ليس ممكنا لأنّ حاجة السوق اللّبناني تتطلب تدفقا متواصلا للنّاقلات بمعدل لا يمكن تأمينه، ومن ناحية أخرى فإن أطياف العقوبات ومخاطرها ستجعل من هذا العنوان قنبلة موقوتة تزيد من تعقيد الأزمات الّتي يجب عليه مواجهتها للمحافظة على نفوذه.

تلك السّيطرة الّتي مُنحت لحزب الله على الجغرافيا اللّبنانيّة جعلته مولّد أزمات وأرضا لا تصلح سوى للموت والخراب، وجعلت الحزب يختنق بهذا النفوذ بدلا من أن يستفيد منه، وجعلت اللّبنانيّين على غرار الأفغانيّين مستعدين لركوب قوارب الموت فرارا من هذا الجحيم المفتوح الّذي لا يفرز سوى مشهدية سوداء تجد تكثيفها الدلالي في حمايته لمحتكري أدوية الأمراض المزمنة والقاتلة.

العالم الذي تركه الأميركيون لتنعم فيه التٍّيارات الأصوليّة بالنّفوذ يمكن أن يكون انتصارا لهذه التّيارات وفق مفهومها الخاص للانتصار. إنّه انتصار يقوم على جثّة كلّ ما هو حي، وكل ما يتّصل بالعالم الحديث. هكذا يمكن القول إنّ حزب الله وطالبان انتصرا على العالم بالخروج التّام منه.

أهلا بكم في عالم الإبادات الشّاملة الجديد.