إيران التي تخشى الفن

2021.06.22 | 06:24 دمشق

statue.jpg
+A
حجم الخط
-A

إيران تعرف بالضبط ما الذي تقوم به في الدول العربية، تعلم تحديداً أين يجب عليها أن تضع قدمها ومن ثم كيف تنتقل إلى الخطوة الأخرى، فهي تنتقل من التغييرات الديموغرافية واسعة النطاق التي تقوم بها في العراق وسوريا ولبنان إلى ما بعد ذلك من تبديل وتغيير لصورة البلاد، فالطوق السكاني المحيط ببغداد حالياً يبدو مغايراً تماماً لما كان عليه في القرن المنصرم، وهي تعمل على تطويق عاصمة الرشيد العربية الصرفة عبر جلب واستجلاب مئات الآلاف من "المتطوعين المؤمنين" وإسكانهم في بيوت وقرى ومدن المهجرين العراقيين المترامين حول العالم.

الأمثلة لا تنتهي من ديالى إلى جرف الصخر وحزام بغداد بالكامل، و كذا الأمر في بيروت التي استحدثت إيران فيها الضاحية الجنوبية التي توسعت واتسعت حتى باتت مدينة كاملة ومستقلة ملتصقة بالعاصمة ومحيطة بالمطار والمدخل الجنوبي للعاصمة والطريق الساحلي الرئيسي في البلاد، وكذا الأمر في البقاع الغربي والجنوبي وبعلبك ونواحيها.. ليستمر الأمر في دمشق التي أيضاً تحولت ضواحيها الجنوبية وبلدات غوطتها هناك إلى مستعمرة إيرانية صرفة لا سلطة للدولة فيها إلا ما قل ودل من إشارات ورموز من أعلام و صور، ولكن السلطة الفعلية فيها هي للميليشيات التابعة لإيران، "حجيرة" و"الست زينب" ونواحيها باتت بالكامل تستقبل عشرات الآلاف من المقاتلين الميليشاويين وأسرهم ممن يسكنون في بيوت أنجزت بسرعة أو صودرت بغية إسكانهم، وتجنيسهم، حيث لا تقارير أو أرقام واضحة تفيد بالنسب الحقيقية لتجنيس هؤلاء ضمن القيود والنفوس السورية..

سجل تسمية شوارع في بيروت ودمشق وبغداد باسم قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وغيرهم من مجرمي الحرب الميليشاويين

فيما بعد انتقلت إيران مثلها مثل أي محتل طارئ يمر على البلاد وهو يحمل رسالة إيديولوجية معينة إلى تغيير أسماء الشوارع والساحات والمشافي ومن ثم إقامة النصب والتماثيل لأبطال مجهودها الحربي.. وفي هذا السياق سجل تسمية شوارع في بيروت ودمشق وبغداد باسم قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وغيرهم من مجرمي الحرب الميليشاويين الذين قاتلوا لحسابها في هذه البلاد، لا وبل نصبت التماثيل لقائد فيلق القدس هنا وهناك..

أما في بغداد درة تاج نظام الملالي فلقد كان التركيز عالياً جداً على نزع الهوية الثقافية العربية من جذورها والاستعاضة عنها بهوية فارسية شرقية وأحيانأً طائفية، حيث إن مدينة بغداد تمتاز من بين المدائن العربية بكثرة النصب والتماثيل الفنية المعمارية التي لا تقدر بثمن والتي تعد تحفاً فنية عالمية وجزءاً من التراث الإنساني المادي الفني الذي يتجاوز فترات إنجازه سواء كانت في زمن البعث العراقي أو في زمن صدام حسين، ولكن عمالقة الثقافة وأساتذة وفنانين ومبدعين ومعماريين ونحاتين عراقيين وقفوا خلف أعمال غاية في الروعة والإنجاز والجمال زينت شوارع بغداد وزادت من جمال حاضرة العرب الشرقية جمالاً وأبهة وروعة ورونقاً.. حيث بدأت أمانة العاصمة في بغداد وبإشراف من رئيس الوزراء نوري المالكي المُسير من طهران بما عرف بـ (اجتثاث الرموز الصدامية) فقاموا بوضع قائمة من أهم وأجمل النصب التذكارية والفنية في ساحات بغداد من أجل إزالتها وتدميرها..

تمثال كهرمانة الذي قام بنحته الفنان العراقي محمد غني حكمت عام 1971

تلقى تحذيرات كبيرة بالإزالة ومن ثم فجرت سيارة ملغمة أدت إلى دمار كبير في أجزاء متعددة منه، يمثل التمثال واحدة من تفاصيل قصة علي بابا والأربعين حرامي، حيث تقف كهرمانة حبيبة علي بابا وهي تصب الزيت المغلي في عدد من الجرار التي تحوي اللصوص الذين اختفوا في الجرار نهاراً كي ينقضوا على أصحاب البيت ليلاً، وبدل الزيت حول الماء المتدفق العذب الجرار إلى فسقية جميلة تزين تلك الساحة الشهيرة في بغداد، والتي باتت رمزاً ونقطة علام لأهالي المدينة، وبسبب رمزية الشخصية المنبثقة من كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يختصر الأدب الشعبي العربي والفارسي والهندي، في ذلك العصر والذي ترجمه الغرب تحت عنوان (الليالي العربية) فقد بات هدفاً لغلاة متطرفي إيران من الأحزاب الدينية العنصرية..

نصب اللقاء: الذي أنجزه الفنان العراقي علاء بشير عام 2001 يمثل بشكل رمزي وجميل عودة العراق إلى الحضن العربي عبر تجسيد كتلتين حجريتين تنحيان لتعانقا بعضهما البعض في تكوين عال وبديع يجسد العرب وهم يعودون لاحتضان العراق الجريح قبيل الحرب الأميركية على العراق 2003، حيث بدأت أعمال بالبناء في الفترة ما بين 1998 و2001، أزيل بجرافات أمانة بغداد واختفى من الوجود.. حيث كان هنالك من يود أن يقطع دابر اللقاء العربي - العراقي عابثاً.

نصب الأسير، وهو يمثل قصة الأسرى العراقيين الذين لقوا حتفهم في السجون الإيرانية، وبالذات قصة الأسير الذي قطعت إيران ذراعيه وانتشرت قصته بشكل مدو في الإعلام العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988. اختفى تحت ضربات البلدوزرات أيضاً.

نصب الطيار عبد الله اللعيبي.. الذي أنجزه فنان فرنسي بعد أن فاز في مسابقة أقامتها وزارة الثقافة العراقية.. وهو يمثل نصباً للطيار واقفاً فوق طيارته بعد أن اصطدم بالطائرة الإيرانية الخصمة التي كانت متجهة لقصف بغداد، بعد نفاد ذخيرته.. أزيل أيضاً بحجة إقامة نفق للسيارات تحته.

تمثال أبي جعفر المنصور الذي أزيل في عام 2005، و من ثم أعيد بعد احتجاجات من المثقفين والفنانين العراقيين الذين رفضوا تدمير الإرث الفني العراقي النحتي، ويواجه حالياً عصابات الميليشيات التي تطالب بتفجيره وإزالته، ربما لعشق حكام إيران الجدد لتصفية حسابات مضت منذ 1500 عام.. حيث لا يزالون عالقين في التاريخ الأسود، ربما انتقاماً لأبي مسلم الخراساني الذي قضى تحت يدي الخليفة المنصور مؤسس بغداد..

النصب الأهم الذي نجا حتى اليوم من مصير الإزالة هو نصب الشهيد العراقي الذي يعتبر تحفة معمارية خالدة

وتطول الفاجعة لتشمل قوس النصر العراقي المؤدي إلى نصب الجندي المجهول الذي أنجزه الفنان العراقي خالد رحال وهو يمثل يدين تمسكان سيفين ضخمين يتشابكان على شكل قوس ضخم تستطيع العربات المرور أسفله، والحجة بأن الإشاعة تقول إن هاتين اليدين تمثلان يدي (صدام حسين). حيث يعد هذا القوس أحد رموز بغداد ونصبها المعمارية المسجلة في سجلات اليونيسكو. وهو تحفة معمارية لا مثيل لها في العالم، ويتوسط شارع ضخم تنفذ فيه الاستعراضات العسكرية والرياضية، ويؤدي إلى مجمع حدائق نصب الجندي المجهول.

النصب الأهم الذي نجا حتى اليوم من مصير الإزالة هو نصب الشهيد العراقي الذي يعتبر تحفة معمارية خالدة، النصب من تصميم المعماري العراقي سامان كمال، أما القبة فهي من تنفيذ وتصميم الفنان العراقي إسماعيل الترك، عام 1983 وهو يمثل قبة كوفية مقسومة بشكل طولاني ومفترقة بحيث تستطيع رؤيتها من مسافات بعيدة، وبلونها الأزرق السماوي والبحيرات المجاورة لها يمكن الزائر إدراك الجمال الفني للنصب.. واجهت حملات هدم النصب معارضة قوية من المجتمع المدني والمثقفين العراقيين، حيث وقعوا عرائض كبيرة لغرض إنقاذ النصب الفريد من نوعه في العالم.

هنال الكثير من النصب الفنية التي أزيلت من الحضور البغدادي أيضاً ويطول ذكر تفاصيلها منها نصب "سفينة العراق" ونصب "المقاتل العراقي" ونصب الجندي المجهول الذي نفذه الفنان العراقي خالد رحال، ودفن في زاوية من زوايا حدائقه، وهو مهدد بالإزالة أيضاً..

تبقى الفنون ويرحل الطغاة، ويحاول الطغاة الجدد الأكثر ذكاء أن يزيلوا الفنون كي يبقوا ويبقى أثرهم، ولكن بذرة الذاكرة المدفونة في قلب الإنسان العربي، ستنبت الفن ذاته في قادم الأيام.