أخوات شكسبير

2021.06.28 | 06:12 دمشق

shakespeares-family-circle.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مقابلةٍ أجريت مع الكاتب ف. س. نايبول الفائز بجائزة نوبل للأدب في جمعيّة رويال جيوغرافيك بشأن عمله الأدبيّ، سُئل نايبول الذي وُصف بأنّه أعظم كاتب حيٍّ للنثر الإنكليزيّ عمّا إذا كان يعتبر أيّ كاتبةٍ نظيرًا أدبيًّا له وقد ردّ على ذلك قائلًا: "لا أظنّ هذا" كما أفرد لجين أوستن نقدًا خاصًّا قائلًا: "إنّه لا يستطيع أن يشاطرها الطّموحات العاطفيّة، وإحساسها العاطفيّ بالعالم".

يمثّل موقف نايبول الذي أثار ردود فعلٍ غاضبة كثيرة امتدادًا لعقليةٍ كانت سائدةً في الماضي تقوم على تهميش النساء

والسبب برأيه هو عاطفة النساء ووجهة النظر الضيّقة إلى العالم لديهنّ، فالأمر المحتّم بالنسبة للمرأة أنّها ليست بالسيّد الكامل للبيت وينسحب ذلك على كتابتها أيضًا، وأضاف:

"إنّ ناشرتي كانت جيّدة كمتذوّقة ومحرّرة، لكن حين أصبحت كاتبة حصل كلّ هذا الهراء الأنثويّ".

يمثّل موقف نايبول الذي أثار ردود فعلٍ غاضبة كثيرة امتدادًا لعقليةٍ كانت سائدةً في الماضي تقوم على تهميش النساء ليس فقط في الحقل الإبداعيّ؛ بل في كلّ القضايا التي تتعلّق بالنساء، ولعلّ أفضل ردّ على نايبول وأولئك الدارسين الذين ينتقدون ضيق عالم النساء الإبداعيّ وافتقارهنّ إلى النواحي الفكريّة والاجتماعيّة؛ مقولة جين أوستن نفسها التي لم يُقيّض لها أن تسافر خارج حدود بلدتها، ولم تركب مركبةً عامّةً وسط لندن، ومع ذلك كانت أوستن لا ترغب فيما لم يكن بمتناولها؛ فقد توافقت موهبتها مع ظروفها على نحوٍ تام: "إنّها تعمل بفرشاةٍ دقيقةٍ على قطعةٍ عاجيّة عرضها بوصتان اثنتان".

سبقت فرجينيا وولف نايبول في الحديث عن احتقار النساء وإبداعاتهنّ على وجه الخصوص؛ إذ تذكر موقفًا مشابهًا لأسقفٍ عاش في زمن شكسبير؛ يقول فيه: "إنّه من المستحيل على أيّ امرأةٍ سالفةً كانت، أو معاصرة، أو ستأتي أن تكون بعبقرية شكسبير".

تنطلق فرجينيا وولف من هذه النقطة بالتحديد للدفاع عن حقّ المرأة في أن تكون حظوظها بالمعرفة والتعليم مساويةً للرجل، ثمّ تمضي خلف مخيّلتها وتفترض وجود أختٍ لشكسبير تُدعى (جوديث) اضطرّت للبقاء في البيت؛ ترقب شقيقها وهو يذهب إلى المدرسة، حيث أتيحت له الفرصة لتعلّم اللاتينيّة، وقراءة أوفيد فرجيل وهوراس وتعلّم مبادئ النحو والمنطق، ثمّ ذهب إلى لندن ليحسّن وضعه الماديّ، وسرعان ما وجد عملًا داخل المسرح وأصبح ممثلًا ناجحًا، وعاش في قلب الأحداث إلى أن تمكّن من الوصول إلى قصر الملكة ذاته، في الوقت الذي كانت أخته حبيسة ما أطلقت عليه فرجينيا (الإدارة المملّة لبيتٍ مستعبد)، وكانت تملك القدرات نفسها وتتمتّع بحسّ المغامرة والخيال والفضول لترى العالم مثله؛ إلّا أنّهم لم يسمحوا لها بالذهاب إلى المدرسة، ولم يُعطها أحدٌ الفرصة لتتعلّم النحو والصرف والمنطق، فضلاً عن قراءة هوراس وفرجيل.

كانت من حينٍ إلى آخر تلتقط كتابًا واحدًا من كتب أخيها ربّما، وتقرأ بضع صفحات، ليدخل والدها عليها ويأمراها برتق الجوارب، أو الاهتمام بالقدر على النار، وألّا تتسكّع وتهدر وقتها عبثًا مع الكتب والأوراق، وفي نهاية المطاف تدفع العائلة بـ (جوديث) إلى الزواج كما هو مُتعارفٌ عليه في ذلك الزمن.

يشقُّ أخوها طريقه ليستكشف العالم، بينما تظلّ جوديث قابعة في المنزل، أو تُهدر عبقريّتها، تعتقد وولف أنّ الحكاية ستكون على هذا النحو تقريبًا لو أنّ امرأةً في عصر شكسبير كانت لها عبقرية شكسبير؛ لذلك فإنّها توافق الأسقف العجوز في أنّه غير واردٍ على الإطلاق في زمان شكسبير، أن يكون لامرأة ما عبقريّة شكسبير، لأنّ عبقريّة شكسبير لم تُولد وسط أناسٍ غير متعلّمين خانعين، يعملون الأعمال الشّاقة ليلَ نهار.

أمّا في زمننا الحاليّ فلم يعد الأمر يقتصرُ على احتقار القدرات النسائيّة والحطّ من شأنها، لقد وصل الأمر ببعضهم إلى تهميش ما تعانيه النساء من ظلم، ونعتِ تلك المظلوميّة بالمبالغة والتطرّف، ومازال بإمكاننا أن نرى أخواتٍ لشكسبير كثيراتٍ يعشْنَ بيننا.

في مقابلةٍ مع إحدى السيّدات السوريّات ضمن مشروع التاريخ الشفويّ القائم على توثيق قصص النساء باعتبارهنّ من الفئات التي طالها التهميش عبر الزمن؛ لفتني الأسلوب الذي تروي به إحدى السيّدات قصّتها؛ إذ تسرد حكايتها المعجونة بالألم والتي بدت لي مشابهةً إلى حدٍّ كبير لقصّة فرجينيا وولف عن أخت شكسبير المفترضة، لقد مُنعت تلك السيّدة في الماضي من إتمام تعليمها بالرّغم من تفوقّها، فُرض عليها أن تقبع في البيت لتشارك أمّها مهامّ البيت المملّة، ريثما يئين الأوان لتنفرد في تصريف شؤون بيتها بالطريقة نفسها.

كانت الحسرة تطغى على حكايتها، لأنّها تؤمن أنّه كان بإمكانها أن تحظى بحياة أفضل؛ شبيهة بحياة صديقةٍ لها؛ خاضت أمّها لأجلها حربًا ضروسًا مع الزوج وعائلته والمجتمع المحيط، لتكمل ابنتها تعليمها، واضطّرت أن تسوق حججًا تؤذيها أكثر من ابنتها؛ في النهاية استطاعت أن تنتصر في حربها الصغيرة المصيريّة، بعد أن اضطّرت إلى مواجهتهم بمنطقهم الأعوج الذي تكرهه: تعليم الفتاة يدعم حظوظها في الظّفر بزوجٍ مناسب، وتلك النتيجة هي أقصى طموحٍ بالنسبة إليهم ولمجتمعهم المحيط، كان موضوع جمال ابنتها يشكّل هاجسًا للعائلة، قالت لابنتها بحزم لتردم المستنقع الذي اضطّرت إلى خوضه حتّى تصل إلى بغيتها: "المهمّ تكملي تعليمك بأيّ وسيلةٍ كانت".

لم تبخل عليها بالدروس الخصوصيّة في مادة الرياضيات، وكانت الدروس الخصوصية بمنزلة الوصمة لمن يحتاجها، تتدبّر أمور دراسة أولادها جميعًا ببيعها لبعض المحاصيل الزراعية الهامشية التي تزرع من أجل مونة الشتاء، تقوم ببيعها لبعض المحال التجارية التي كثرت في الآونة الأخيرة، حين بدأت بلدتهم تتحول ملامح الحياة فيها وتتسع لتصبح مركزًا مهمًا للتسوّق في المنطقة.

ساقت تلك السيّدة قصّة طريفة تتعلّق بالدروس الخصوصية مفادها؛ أن أستاذ الرياضيات في بلدتهم المتواضعة كانت أجرة درسه الخصوصيّ علبة سجائر ماركة حمراء طويلة، أو ما يُعادل ثمنها، وهو أجرٌ زهيد بمقياس تلك الأيام؛ ولأنّ تلك الأمّ لم تحبّ أن يُنسب نجاح ابنتها للدروس الخصوصية؛ اضطّرت أن تدفع الأجرة ضعفًا؛ لكي يأتي الأستاذ إلى بيتهم الواقع على أطراف القرية، ويبقى أمر الدروس تلك طيّ الكتمان...

لقد توقّفت تلك السيّدة عند هذا التفصيل في ثنايا قصّتها؛ لتبدي إعجابها بشجاعة أمّ صديقتها وغبطتها لها، ولتؤّكد أنّ إتمامها تعليمها لم يكن ليرهق عائلتها الميسورة أصلًا، وبالرّغم من هذا كلّه لم ترضخ عائلتها لتوسّلاتها أو تتعاطف معها:

"ما كنت بحاجة للدروس الخصوصية، كان بدّي بس يسمحوا لي كمّل تعليمي، صديقتي اليوم طبيبة مشهورة في الخارج، وأنا اللي كان مستواي أحسن منها بكتير شوفي الحياة اللّي عمّ عيشها".

دعونا نمضي مع فرجينيا وولف في تخيّلاتها، ونفترض أنّ هذه السيّدة السوريّة ومئاتٌ غيرها ظفرْنَ بأحلامهنّ الموءودة؛ كنّا سنختصر كمًّا لا يُستهان به ممّا يعتبره كثيرون (هراءً أنثويًا)

تلك قصّة من بين عشرات القصص التي تسرد فيها النساء تجاربهنّ المترعة بالألم، لكنّ هذه المرأة بالتحديد كانت تهرب من حياتها إلى حياة أخرى افتراضيّة آمنت أنّه كان بإمكانها أن تظفر بها لو أنها رُزقت بتعاطف أحد والديها معها، وقفتُ عند هذه النقطة طويلًا وقلتُ في نفسي: لو أنّ هذه السيّدة حصلت على ما تريده؛ لكنّا  أمام حدثٍ غايةٌ في الأهميّة، ولكنّا جميعًا نستمع الآن إلى قصّة مختلفة يملؤها الحبور والرّضا، ولم أكن لأنهمك في طمس نبرات الألم وأنا أقوم بتفريغ تلك الآلام ونقلها من ملفّها الصوتيّ إلى آخر مكتوب، لامرأة حكمت الظروف عليها أن تبقى في الهامش تمارس صنوف الشقاء كلّها، وما كنت لأقف في بعض المواضع متابعةً ذرف دموعٍ اختنقت بها صاحبتها ومنعتها من إتمام قصّتها، بينما انشغلتُ أنا حينها بخوفٍ دبّ في أوصالي أن تتوقّف تلك السيّدة عن إتمام قصّتها، فأفشلُ في الحصول على مادّة مؤثّرة يقرؤها جمهور خاصّ يبدي اهتمامًا بتجارب وقصص النساء اللواتي ذرفن دموعًا كثيرة وهنّ يسردنها.

نعم! دعونا نمضي مع فرجينيا وولف في تخيّلاتها، ونفترض أنّ هذه السيّدة السوريّة ومئاتٌ غيرها ظفرْنَ بأحلامهنّ الموءودة؛ كنّا سنختصر كمًّا لا يُستهان به ممّا يعتبره كثيرون (هراءً أنثويًا).

كلمات مفتاحية