الطفولة السوريّة.. قرابين على مذبح الحريّة

2022.06.07 | 07:05 دمشق

ayyamsyria.net_2017-03-07_07-30-51.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يدرك عظمة الثورة السوريّة إلّا أولئك الذين يعرفون تمامًا ما معنى أن يُكسر جدار الخوف الذي جُبل بدماء وأرواح السوريين، وبكسره تقوّضت أركان ديكتاتوريّة مستبدّة لأسرة خطفت سوريا من أهلها، وأجبرتهم على السير في طريق وحيد رُكزت على جانبيه صور تقودك إلى المكان الوحيد الذي تستطيع المكوث فيه؛ حظيرة الاستبداد، وهكذا استطاعت هذه العائلة أن تحجز لنفسها بجدارة مكانًا في سجلات الإجرام العالميّ جنبًا إلى جنب مع بعض الشخصيات التي توافق العالم بأسره على وصمها بالديكتاتورية.

لقد عاين السوريون علوّ وصلابة ذاك الجدار وخبروه؛ إذ شكّلت أرواحهم ودماؤهم دعاماته وركائزه الضاربة في العمق، لم يكن من السهل نقض خوفٍ قد تنامى وفرّخ وعشّش في القلوب طيلة ما يقارب نصف عقدٍ من الزمن، بل كان شيئًا مستحيلًا أشبه بالمعجزة؛ المعجزة التي حدثت على يد أطفال أبرياء خطّت أصابعهم أولى عبارات الحرية على جدران مدارسهم التي لم تفتأ يومًا عن تلقينهم فروض الطاعة والولاء لـ "السيّد الأوحد" و"القائد المفدّى"، نعم! لقد صنع أطفال سوريا المعجزة، فكانت فعلتهم تلك تجسيدًا حقيقيًا لمقولة دارجة في ثقافتنا الشعبيّة: "يضع سرّه في أضعف خلقه".

استمرّ نزيف دماء الأطفال السوريين طيلة سنوات الثورة، فالنظام أبدع وتفنّن في قتل السوريين، وارتكب مجازر عديدة بحق الطفولة البريئة

إنّ تلك الأصابع التي خطّت الحروف الأولى في أبجديّة حريّة السوريين التي أوشكوا أن ينسوها لبعد عهدهم بها؛ لم يقدّر لها النجاة من نظام مجرم لا يقيم وزنًا للطفولة وبراءتها التي يُفترض أن تجعلها في مأمنٍ من العقاب؛ لذا كان قدرها أن تُقطع من باب التأديب لكلّ من تسوّل له نفسه أن يرفع رأسه ويفكّر في الخروج عن المسار المحدّد له، إلّا أنّ ما حصل لم يكن النهاية؛ بل بداية المسيرة نحو الحريّة التي انتظم في موكبها السوريون أطفالًا ونساءً ورجالًا بعد أن اكتشفوا وجود طرقاتٍ أخرى تؤدّي إلى الكرامة، وهذه الطفولة البريئة قُدّر لها أن تكون بمنزلة القربان الذي تُراق دماؤه على العتبات المقدّسة طلبًا للمعجزات.

استمرّ نزيف دماء الأطفال السوريين طيلة سنوات الثورة، فالنظام أبدع وتفنّن في قتل السوريين، وارتكب مجازر عديدة بحق الطفولة البريئة على طول مسار إجرامه؛ من مجازر الكيماوي ومجازر قصف المدارس ومجزرة الحولة التي توافقت مع وجود بعثة من مفوضية الأمم المتحدة ومجازر أخرى كثيرة تُرتكب بحقّ الثائرين من دون أن تستثني الأطفال أو ترأف بطفولتهم البريئة. كلّ ذلك كان شاهدًا على إجرام النظام وأنه لا يولي اهتمامًا للطفولة التي صدع بها رؤوسنا إبان عهد حافظ الأسد من عبارات وشعارات لمهرجانات الطفولة السنوية والفصلية، وعن الأب القائد ورعايته طلائع البعث ومعسكرات الشبيبة ونشاطات عديدة، كل ذلك نُسف نسفًا تامًا حين خطّت الطفولة البريئة الحرية على الجدران، فكانت البراميل والصواريخ الفراغية والذبح بالسكاكين كما في مجزرة الحولة، ودكّ البيوت فوق رؤوس أصحابها كما في حلب الشرقية؛ كلّها محطّات مؤلمة أُجبرت ثورة الحريّة والكرامة على المرور بها، وعلقت في ذاكرة الأطفال السوريين الذين سيكبرون ويحملونها إرثًا ثقيلًا  ينوء عن حمله الكبار.

إن الحرب التي شنّها النظام المجرم جعلت كثيرًا من العوائل السورية تهرب بأبنائها خارج البلد؛ حيث سلك السوريون طرقًا إلى أماكن أخرى بديلة ريثما يُشقّ طريق الحرية ويصبح ممهّدًا يمكن السير فوقه بأمان؛ أرواحٌ ودماءٌ كثيرة أُريقت فوق هذا الطريق، وكانت دماء الأطفال جزءًا من تلك المسيرة، كانت الغاية الأولى لفرار تلك العوائل أن ينجوَ أطفالهم من المجازر التي يدركون كلّ الإدراك أنّها لن تُبقي أو تذر استنادًا منهم إلى تجارب سابقة، وفي سبيل ذلك انتقلوا مع أطفالهم إلى بلدان جديدة، ليواجهوا أشكالًا أخرى من الموت تتربّص بهم أينما ذهبوا؛ تبدأ بتلاشي روح الطفولة وخفوتها لدى أبنائهم، وتنتهي بموت أحلامهم الصغيرة على قارعة الغربة التي اجتثت لدى كثيرٍ منهم شغفهم بالحياة والأمل بمستقبلٍ أفضل.

كثيرٌ من الأطفال تسرّبوا من مدارسهم ووجدوا أنفسهم بعد أن كبروا قبل أوانهم في سوق العمل أسوةً بالرجال الكبار، حتى أصبح مألوفًا أن نرى كثيرًا من الأطفال قد أصبحوا المعيل الوحيد لأسرتهم والسند الأوحد لمصير العائلة، هذا الطفل غدا محرومًا من حق التعلم واللعب ومن أبسط حقوق الإنسان التي نصّت عليها الأمم المتحدة، كما كان مصير فتياتٍ كثيراتٍ قاصرات الامتثال لرغبة أهاليهنّ بتزوجيهنّ رغبةً منهم في التخفيف من الأعباء التي وجدوا أنفسهم يرزحون تحت ثقلها في بلدان النزوح واللجوء؛ بل إنّ أسرًا عديدة لم يكن دافعها لتزويج بناتها في سنّ مبكّرة الهرب من العبء الكبير الذي يُثقل كواهلهم؛ بل كان الغرض منه عقد صفقة، من خلال تجار ووسطاء وجهات جعلت من ذلك النوع من الزواج تجارة رابحة تحت ستار الدين والشرع.

المسؤول الأوّل عمّا تُنكب به الطفولة؛ الأهل ثم المجتمع المحيط ثم السلطات الموجودة في الأمكنة التي وقعت فيها تلك الانتهاكات بحقّ الأطفال السوريين

كل ذلك الأسى حملته الطفولة السورية على طريق الثورة، لكن المخيف أكثر أنّه بعد مرور أكثر من عقد على بداية مشوار الطفولة في الربيع العربي، أن تُستكمل مأساة الطفولة السورية في "المحرر" حين نرى أطفالًا قيدهم أهلهم وربطوهم كما تُربط الدابة وآثار التعذيب بادية على جسومهم الغضّة؛ بدءًا بالطفلة "نهلة العثمان" مرورًا بـ "مرام عسّاف" و "أسماء الحسن" ممّن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعيّ قصصهم على نطاقٍ واسع مصحوبةً بغضب وألم كبيرين على ما آلت إليه حال الطفولة السوريّة في "المحرّر"! وما خفي أعظم، من كوارث في باطن الخيام وفي عتمة البيوت الهامشية، تحت جنح الظلام التي لا يصلها الضوء! إنها مأساة الطفولة السورية في ظلّ غياب مؤسسات مهمّتها الرعاية والدعم، ووسط تجاهل المنظمات الدولية التي تعنى بالطفولة، وكأن الأمر يحدث فقط بسبب غياب مظاهر الدولة المتحضرّة.

إنّ المسؤول الأوّل عمّا تُنكب به الطفولة؛ الأهل ثم المجتمع المحيط ثم السلطات الموجودة في الأمكنة التي وقعت فيها تلك الانتهاكات بحقّ الأطفال السوريين والتي يجب أن تكون حماية الطفولة لديهم من المسلّمات ومن أولى المهام الملقاة على عاتقهم، لئلّا تغدو تلك الانتهاكات أمرًا اعتياديًا يتعايش المجتمع المحيط الذي تقع فيه تلك الأحداث معها في ظل غياب المنظمات المسؤولة والقوانين الرادعة التي يتوجّب أن تسنّها السلطات الموجودة هناك من أجل حماية الطفولة؛ وإلّا فلا معنى للسلطة الممنوحة لهم على ذلك المكان والناس الموجودين فيه.

ثمّ لماذا لا تكون هناك منظّمات مسؤولة مختصّة بحماية الطفولة؟ لماذا لا نسمع إلّا بمنظّمات وجمعيات تعنى بتوفير الغذاء والعلاج والتدفئة وتوفير الخيام فقط؟ لماذا لا تقوم الدول الراعية والمساهمة في دعم "الشمال المحرر" برعاية منظمات تعنى بحقوق الطفولة وحمايتها أيضًا؟

لطالما كانت الحروب فرصة لكثيرين ليعلّقوا نقائصهم وعللهم على شمّاعتها، لكن جرائم كهذه لا يمكن لعاقل بأيّ حالٍ من الأحوال أن يردّها إلى الحرب وقسوتها فقط، ندرك جيدًا أن مستنقع الحرب تربة خصبة للعلل والأمراض البشرية بلا ريب، لكن البذور الكامنة أصلًا في نفوس البشر هي الأساس وهي بذور لا يمكن ردّها إلّا إلى الفطرة الإنسانية المنحرفة لدى البشر ممّن يمارسون إجرامًا يضاهي إجرام النظام بحقّ الطفولة السوريّة التي كانت القربان الأول الذي أريقت دماؤه على مذبح الحرية السورية.