ما بعد سوتشي

2018.08.03 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منذ مطلع العام 2017، بدأ الروس باستثمار النتائج العسكرية للعدوان الذي شنوه على قوى الثورة السورية في أيلول 2015، ونعني بذلك دون شك إيجاد مسار أستانا الذي حقق لهم حتى هذه اللحظة إيجاد واقع ميداني جديد أتاح لهم الالتفاف على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية وأبرزها قرار جنيف 1، 2012 المدعوم بالقرار 2118، والقرار 2254 الصادر عام 2015.

 وبات الاستفراد الروسي بالملف السوري أمراً واقعاً بالنسبة إلى المجتمع الدولي، ولعل قمة هلسنكي الأخيرة بين ترامب وبوتين في منتصف شهر تموز الماضي حملت دلالات واضحة تؤكد عدم اعتراض الإدارة الأمريكية، إن لم نقل رضاها الكامل عن السيناريو الروسي الذي يتماهى دموياً مع النزعة الإجرامية لنظام الأسد. وبات واضحاً أن مسائل الخلاف الروسية الأمريكية لا تربطها بالجغرافية السورية سوى أنها مسرح لليّ الأذرع لا أكثر.

كما أننا نستطيع قراءة الموقف الأوربي الموسوم بتبعيته الفعلية للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال رسالة (ماكرون) التي تمثلت بإرسال شحنات دوائية إنسانية إلى قاعدة حميميم، ليقوم الروس بتوزيعها في الغوطة الشرقية، بالطبع،

ثلاثة مواقف تتزامن في دعمها لنظام الأسد وتأييده الكامل للمضيّ في قتل السوريين دون أي خوف من عقاب، الموقف الأمريكي، والأوربي، والثالث والأهم هو الموقف الإسرائيلي.

لم نكن نجد أي أثر لهذا التعاطف الفرنسي (المشبوه) حين كان سكان الغوطة الشرقية أحوج ما يكونون لهذه الأدوية جراء حصار ظالم دام أربع سنوات، لكن ربما شاءت الدبلوماسية الفرنسية إيصال رسائلها السياسية إلى بوتين بهذه الطريقة، وهي على يقين بأن الروس سيفهمون مراميها دون أي لبس.

ثلاثة مواقف تتزامن في دعمها لنظام الأسد وتأييده الكامل للمضيّ في قتل السوريين دون أي خوف من عقاب، الموقف الأمريكي، والأوربي، والثالث والأهم هو الموقف الإسرائيلي الذي رحّب بسيطرة نظام الأسد على الجنوب السوري باعتباره الحارس الأمين والمُجرّب لأمن إسرائيل خلال عقود من الزمن.

قد يبدو هذا المناخ الدولي ملائماً جداً لإصرار موسكو على جعل سوتشي هي المحطة التي سيتبلور فيها الحل الروسي للمسألة السورية، ليس لأن سوتشي مختلفة عن أستانا، أو أنها ستكون مساراً جديداً، بل الأصح هو أن سوتشي ستكون المظلة السياسية التي يتم فيها ترتيب مخرجات أستانا وفقاً لأولويات بوتين، وقد بدا هذا الأمر واضحاً حين فرض الروس مسألة عودة اللاجئين على رأس جدول لقاء سوتشي الأخير في (31 – 7 – 2018 )، وذلك ضمن المسعى الروسي الرامي إلى استثمار وجوده في سورية ليس عسكرياً وسياسياً فحسب، بل التطلع إلى استباق الأمور وقطع الطريق أمام المنافسة الأمريكية والأوربية حول مسألة إعادة الإعمار. أما القضايا الأخرى ذات الصلة في اللقاء المذكور، فقد تم ترحيل بعضها إلى بداية شهر سبتمبر المقبل، كمسألة اللجنة الدستورية، كما تم إرجاء بعضها إلى لقاءات ثنائية (روسية – تركية) وأعني مسألة (إدلب).

أمّا القضية الأهم بالنسبة إلى السوريين، أعني (ملف المعتقلين والمغيبين في سجون الأسد)، فيبدو أن ثمة إجماعاً دولياً على تجاهله تمهيداً لإلغائه واعتباره مجرد دعوى قضائية سقطت بالتقادم، بدا ذلك واضحاً منذ أن قامت سلطات الأسد بتوزيع قوائم تتضمن أسماء مئات المعتقلين – من الذين قتلهم الأسد - إلى دوائر السجل المدني في المدن والبلدات السورية، ليتم إبلاغ ذوي المعتقلين بموت أبنائهم ميتةً طبيعية، هكذا وبكل مواصفات المجرم الواثق من تبرئته يتحدّى بشار الأسد ليس أرواح السوريين فحسب،

تُختَزل قضية أرواح مئات الآلاف من المعتقلين السوريين إلى مجرد صفقة، كباقي الصفقات التي نشهدها بين نظام الأسد والجماعات المسلحة لتنظيم القاعدة.

بل مجمل القيم الكونية التي تُجمع على قداسة الكائن البشري. وفي خطوة تعزّز هذا المنحى الإجرامي، اقترحت حكومة بوتين فكرة تبادل عدد محدود من المعتقلين لدى كلٍّ من النظام والمعارضة، وذلك تحت مسمّى توطيد الثقة أو إبداء حسن النوايا لدى الطرفين، كما أُطلق على ذلك الاقتراح (اختراق تجريبي لملف المعتقلين)، وهكذا تُختَزل قضية أرواح مئات الآلاف من المعتقلين السوريين إلى مجرد صفقة، كباقي الصفقات التي نشهدها بين نظام الأسد والجماعات المسلحة لتنظيم القاعدة.

ولئن كان لقاء سوتشي الأخير محطة نوعية بالنسبة إلى روسيا، استطاعت من خلالها أن تقدّم (كشف حساب) بكل أوراقها الرابحة والقوية التي تجسّدت بقدرتها على انتزاع إقرار دولي بأولوية رؤيتها في سورية من جهة، وكذلك بنجاحها في استدراج المعارضة السورية منذ لقاء أستانا الأول في كانون الثاني 2017 وحتى اللقاء العاشر، وتجريدها من مجمل ما تحمله من نقاط القوة، فلم يعد القسم الأكبر من الجغرافية السورية محرراً كما كان من قبل، وكذلك لم تعد فصائل الجيش الحر تملك زمام المبادرة بقتال الأسد، حتى القرارات الأممية لم تعد هي المرجعية للعملية التفاوضية، ولعل هذا ما جعل هيئة المفاوضات تعود عن قرارها الرافض لسوتشي الأول، ولتجد لها سبيلاً إلى الانخراط بركب أستانا من خلال مشاركة بعض أعضاء الائتلاف في وفد سوتشي، إلّا أن ( كشف الحساب) الذي يحمله الطرف الآخر، أي وفود المعارضة السورية ، لم يفصح عن كامل مضمونه بعد، على الرغم من إرهاصاته الفاقعة، بانتظار التجليات الحقيقية لنظرية (الواقعية السياسية ).