رحلت داعش وبقي النظام

2019.04.11 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مدخل ومقدمات..

إذا كانت النتائج عادة ترتبط بالمقدمات والغايات، فإن قوى الاستبداد الفاعلة في سوريا داخلياً وخارجياً أرادت من التفافها على المظاهرات الاحتجاجية السلمية قطع الطريق على جيل الشباب الذي واتته فرصة النهوض إلى الحرية، مع تفتح وعي جديد لديه، تلبية لحاجات مادية وروحية تخص حياته، ولما كان النظام عاجزاً عن تلبيتها إذ التنمية متوقفة، والفساد متفاقم، والسياسة محتكرة، ومثلها الاقتصاد، والمال العام في أيدي دائرة ضيقة تحيط بالنظام..! لم يجد النظام وسيلة غير التمسك أكثر فأكثر بالسلطة، وبأية وسيلة كانت.. وهكذا أرادها حرب إبادة ضد الشعب والوطن (الأسد أو نحرق البلد) ولكن لابد له من مبرر يتكئ عليه أمام الداخل والخارج..!

وعلى ذلك فقد وجد ضالته في داعش.. ولمَّا كانت بعض فصائل ما عرف آنذاك بـ "الجيش الحر" قد رحَّبَت بـ "داعش" متوهمة أنها ستحارب إلى جانبها إذ هي تمثل (إخوة الدين) إلى جانب ذلك الكم الكبير من الفصائل المسلحة التي لا يعرف أحد كيف نمت كالفطر كثرةً وسلاحاً ومزاعم عن محاربة النظام، وحماية المدنيين، فإن النظام أيضاً قد أغمض العين عنها عمداً منذ مجيئها.. فهو يبحث عن مسلحين من لحم ودم ولهم جذور إرهابية لمواجهتهم على الأرض، وأمام الملأ، إثباتاً لمحاربته إرهاباً واضحاً رداؤه الدين..!

حادثة عابرة

ذات يوم من صيف العام 2013 كان لي لقاء عابر مع "زهير. م" أحد معارفي، )كان جاراً لي في البناء الذي سكنته في حي الميدان بمدينة حلب قبل العام 2000) وبعد سلام وكلام اقتضتهما العادة والعرف الاجتماعيين، وكنا منشغلين بالهمِّ السوري، نتلقف أخباره، ومساراته.. وبعد الدخول في صميم ذلك الهمِّ فهمت منه أنه شهد دخول الدواعش من جهة عين التل في منطقة "بعيدين" بحلب، وعبر ممر غير بعيد

منذ البدايات في درعا أخذت أجهزة النظام تسرِّب أخباراً عن وجود مندسين يرفعون أعلاماً أمريكية وإسرائيلية، تلتها أحاديث عن وجود عصابات مسلحة

عن حواجز النظام، وما عرف آنذاك باللجان الوطنية التي شكلت منذ العام2011 للتصدي للمتظاهرين السلميين.. كان الرجل يتحدث بدهشة عن هؤلاء المقاتلين الذين يرفعون أعلاماً سوداء مدججين بأسلحتهم وذخيرتهم.. فسألته:

ألم تعترضهم تلك الحواجز؟! أجاب بعفوية:

 لا.. أليس هؤلاء معنا؟ (يقصد مع النظام طبعاً..!)

ثرثرات ودلالات

 (1)

منذ البدايات في درعا أخذت أجهزة النظام تسرِّب أخباراً عن وجود مندسين يرفعون أعلاماً أمريكية وإسرائيلية، تلتها أحاديث عن وجود عصابات مسلحة..! وبين هذه وتلك كان إعلام النظام يشير إلى مؤامرة كونية على سوريا، ونظامها المقاوم.. ثم عن إرهابيين دوليين يجري تجميعهم في سوريا للقضاء عليهم..!

(2)

ينقل زميل مدرِّس في العام 2011 عن ضابط شرطة قريب يشكو من ضيق الوقت، وعدم اللقاء بالأقارب والأصدقاء لمن يطلب منه زيارة أو لقاء.. فيعتذر هامساً: إنها مهمة المناوبة الجديدة التي فرضت علينا لتفقد بعض القناصة الذين زرعتهم القيادة على عدد من أسطح الأبنية المرتفعة.. (وتناقلت الألسن آنذاك إن صفقة البواريد القنَّاصة كانت قد اشتريت من الصين قبل الاحتجاجات بأشهر أي منذ بدأ الحراك في تونس وتلته مصر وليبيا..)

(3)

في أواخر آذار 2011 انشغل النظام بتشكيل اللجان الشعبية من سقطة المجتمع وعامته مستعيناً بأجهزته الحزبية والأمنية، وأغلبها من بعض شرائح المجتمع ممن يعملون في الممنوعات تهريباً وتسويقاً تحت أعين الأجهزة الأمنية (غالباً ما يكون لدى هؤلاء أشرار من قاع المجتمع يستخدمون في أعمال خطرة ولهم شركاؤهم من الأجهزة الأمنية.) يذكر أن رئيس فرع الأمن السياسي بحلب استدعى لدى بدء المظاهرات (بحسب رواية "و. م" إعلامي حلبي) أحد زعماء هؤلاء لدى تشكيل تلك اللجان طالباً نجدته، قائلاً: ثمة أخطار تحدق بالوطن، ونحن (النظام) بحاجة إلى همتكم للتصدي لهؤلاء "الخونة" (يقصد المتظاهرين) فكان رد الزعيم العشائري كما يريد ذلك المسؤول الأمني وأزيَد:

"سيادة العميد.. نحن نعرف واجبنا، ولسنا بحاجة للتنبيه، فهذا الحكم لنا، والدفاع عنه مسؤوليتنا"، وبالفعل شكَّل ذلك الزعيم ميلشيا خاصة به، كالميليشيا التي شكلها آل بري التي كان من أعمالها الأولى الاعتداء على طلاب الدراسات العليا في كلية الطب الذين اعتصموا أمام نقابة الأطباء في حي العزيزية بحلب خريف عام 2011 وتلتها أعمال مسلحة كثيرة أودت بحياة قائدها، فيما بعد، ومعه مجموعة كبيرة في اشتباك مع الجيش الحر في صيف 2012.. 

شركاء في ثروات الوطن

بالطبع لا ضرورة لاستعادة سلوك (داعش) واهتمامها الأول بمحاربة فصائل الجيش الحر كافة، إذ كفرها وأخرجها عن الإسلام ارتداداً وعمالة لأمريكا، ولا حاجة أيضاً لاستعراض أوجه التعاون بينها وبين النظام في تقاسم ثروات الحبوب والبترول السوريين عبر شخصيات صارت معروفة للجميع كجورج حسواني ومحمد القاطرجي وغيرهما..  وأنَّ اتفاقات فعلية جرت بين داعش والنظام حول تقاسم حصصهما وقد تراوح دخل داعش من النفط والغاز فقط ما بين 1.5 إلى 3 مليارات دولار.. ناهيكم باشتراك النظام وداعش بتدمير أهم ثروة ثقافية وسرقة ما لم يدمر من آثار وتهريبها.. هذه التي تعد أهم تراث وطني وإنساني.

وثمة أوجه شبَهٍ أخرى عديدة ومتنوعة بين داعش العصية على الفهم والهضم، وبين النظام "الوطني المقاوم والممانع" منها ما أظهر عمقها من خلال ممارسة كل منهما على الأرض إذ نزعت تلك الممارسة عن كل منهما قشرته الخارجية، ومن ذلك: 

أولاً: ثمة تلازم تاريخي بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني الذي انتهى في أوروبا منذ أكثر من مئتي عام وجاءت الحرب العالمية الأولى لتكون حداً فاصلاً بين عالمين قديم وجديد، ورغم انهيار النظام القديم وتلته الأنظمة الشمولية الحديثة التي مثلها الاتحاد السوفييتي في مراكزه الرئيسة إلا أنه بقي في الأطراف عثرة في طريق التطور الطبيعي.. ويصرُّ النظام السوري على ذلك التلازم، فرغم مقاومته للإرهاب السياسي الديني فقد أصدر المرسوم 16 الخاص بوزارة الأوقاف الذي يتوقع له أن يفرخ دواعش جديدة بما أعطي من مزايا للشباب على نحو خاص..

ثانياً: إنَّ النظام وتنظيم الدولة يستندان إلى إيديولوجية وشعارات لا يأتيهما الباطل أبداً وإن اختلفت التسمية.. صحيح أن الإيديولوجية الدينية لها الحظ الأوفر لما تتمتع به من قدسية تاريخية لدى غالبية الناس الذين يتعلقون بالفهم العام للجانب الروحي في الدين! ولكنَّ المتاجرة بمفهومي الوطنية والقومية لهما تأثيرهما العميق في حياة العرب المعاصرة وبالضعف الي يعانونه، وبالهزائم التي لحقت بهم، ويورثان التعصب وبخاصة إذا ما احتكرهما حزب معين، وصار يفرز شعبه صالح وطالح، ووطني وخائن ويصرخ بالمؤامرة الكونية على النظام "الوطني التقدمي..!"

ثالثاً: كلاهما يزعم أنَّه معاد لإسرائيل لكنَّه يأبى أن يقذفها بوردة، فلا الوقت يناسب ولا الزمن أيضاً، ولكن، للأمانة وللتاريخ، فإنهما يعِدانِها بيوم لا ينفع معه توبة للظالمين، ولذلك تراهما يصطنعان عدواً أولياً يوقفانه حجر عثرة أمام أحلامهما ليحول دون معاركهما الرئيسة.. إذاً لابد للخلاص منه أولاً، تمهيداً للطريق وخلاصاً ممن يعيقون الدرب، فهما غير غافلين، فقط يؤجلان القصاص ويرقبان الزمن

لدى الطرفين سجون تأديبية متشابهة قد لا يوجد مثيل لها في العالم قسوةً واستهانةً بكرامة الإنسان.. ولديه قضاة تحت الطلب، لا يحتكمون إلى قوانين محددة ولا إلى ضمير

والمكان المناسبين.. وحتى يأذن الله، أو أولياء الأمور على الأرض، وفي جميع الأحوال إنهما يمنحان عدوهما وقتاً إضافياً ومجالاً أوسع ليضاعف آثامه فيحق عليه القول.. (النظام لديه الإرهاب، وتنظيم الدولة محاط بالخونة والمرتدين من الفصائل التي لم تبايعه..!

رابعاً: كلاهما في هذا المجال وفي المعارك الجانبية الخلبية يسترخص دم الإنسان فيهدره على أساس مفردات إيديولوجية، وعلى قاعدة من لم يكن معنا (المبايعة) فهو ضدنا.. ولدى الطرفين سجون تأديبية متشابهة قد لا يوجد مثيل لها في العالم قسوةً واستهانةً بكرامة الإنسان.. ولديه قضاة تحت الطلب، لا يحتكمون إلى قوانين محددة ولا إلى ضمير، بل إلى رأي القائد أو الأمير..

خامساً: كلاهما استدعى أعواناً له من بلاد الأرض ودعا خصوماً طامعين في الوقت نفسه ليساهم في خراب هذا الوطن الجميل وإنسانه المبدع.. وإذا كانت داعش قد استعانت بأبناء القاعدة الميتمين بعد أفغانستان فإنّ "الأسد" استدعى أصدقاءه وهو يعرف تماماً، أو يجب أن يعرف أنَّ هؤلاء المستقدمين لم يأتوا كرمى لعينيه، بل لمطامع قديمة جديدة لا في ثروات واعدة في الأرض السورية فحسب بل في موقع استراتيجي يجعله، في حال تمكُّنه، أن يساوم الأقوياء من الطامعين الآخرين، وأن يكسب الكثير من منطقة لا تزال تمتلك طاقات ولوازم حضارة اليوم..

وأخيراً إذا كانت الأمور تقاس بخواتيمها فلا بد إذاً من التمعن بما آلت إليه سوريا أرضاً وشعباً ومقدرات فهي كما يراها الجميع اليوم، وفي مقدمتهم دولة الكيان الصهيوني، قد آلت إلى الخراب والفراغ من الناس والأشياء، وبما يفرح قلب نتنياهو اللئيم الذي استطاع، بالاستناد إلى كل ما جرى أن يأخذ، في 25 من آذار الماضي، صكاً من أمريكا بسيادته على الجولان، ولا تهم بعدئذ قرارات الأمم المتحدة المعلَّقة منذ خمسين عاماً، ومنذ سبعين عاماً فيما يخص قرار تقسيم فلسطين..! و(إسرائيل لم تتوقف عن قضم الأراضي الفلسطينية طوال ذلك الزمن).

وتثبت الوقائع اليوم أن الوطن مهدد بأكثر مما جرى له، فالقوى المستعان بها تتصارع على نفوذ ومكاسب، وثمة قوى دولية أخرى تتربص مستغلة حالة الضعف التي آلت إليها البلاد، والأوضاع المعيشية والأمنية في الداخل فوق الاحتمال..! ولا حلَّ حقيقي إلا بعودة المهجرين والإفراج عن المعتقلين واستعادة الأمن، وطرد المليشيات الأجنبية..! وهذا يحتاج إلى مقاربة جدية للحلول السلمية التي تضع الوحدة السورية أرضاً وشعباً عنواناً رئيساً لها، فهل يقدر النظام الذي غادره قراره قبل أن رحيله أم نحن بانتظار معجزة ما..؟!