الثورة المفوّتة ... والنقدُ المفقودُ

2018.11.16 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تحدث الثورة في المجتمع البشري في بلد ما حين يشكّل النظام السياسي الحاكم جدار صدٍ في وجه تطور المجتمع ومنعه من تحقيق حاجاته المادية والروحية. والثورة السورية التي تفجّرت في ربيع عام 2011 أتى تفجّرها على هذه الأرضيّة، وهذا اتضح مع المظاهرات السلمية التي نادت بضرورة إجراء إصلاح بنيوي للدولة السورية، ونقلها من واقع "الدولة الأمنية" إلى واقع "الدولة الديمقراطية".

المظاهرات التي عمّت أغلب مناطق البلاد لم تستطع بلورة حالةٍ تنظيمية ثورية موحدة، بحيث يتمّ بناء قيادة موحّدة للحراك الثوري، ولم تستطع قوى الثورة المنخرطة فيها من رسم مسار سياسي واضح الأهداف لكلَ السوريين، فهذا المسار السياسي ينبغي أن يحافظ على درجةٍ من الوطنية، يرفض الانجرار وراء دفع النظام الأسدي لقوى الثورة إلى مربع مواجهةٍ ذات طابع طائفي. لكنّ القوى الحيّة في الثورة السورية ذات الرؤية الاستراتيجية لم تستطع البقاء في مربعها الوطني، مما سمح للنظام الأسدي بلعب أوراقه الأمنية من خلال إطلاق سراح مجموعات متهمة بالانتماء لتنظيم القاعدة الدولي، والذي شكّلت داعش أحد وجوهه، حيث ستلعب هذه المجموعات دوراً تخريبياً للجهد الثوري، الذي يطالب بدولةٍ مدنية ديمقراطية تعددية في سوريا.

قوى الثورة السورية لم تستطع التقاط حالة الحاضنة الشعبية التي يتمترس خلفها النظام الأسدي

قوى الثورة السورية لم تستطع التقاط حالة الحاضنة الشعبية التي يتمترس خلفها النظام الأسدي، فالخطاب الديمقراطي كان ينبغي أن يجد حوامل حقيقية له لدى الحاضنة المحسوبة على النظام، كما ينبغي أن يكون حامله الثوري على قدرة تنظيمية فكرية سياسية واضحة البرنامج والأهداف، بحيث تشكّل قاعدة تلتف حولها كل قوى المجتمع المعنية بالتغيير الديمقراطي.

قوى الثورة السورية لم تستطع أن تلجم الخطاب الذي حاول تصوير الأمر وكأن الصراع في سوريا هو صراع طائفي بين طائفة صغيرة تسيطر على الحكم في البلاد وطائفة كبيرة يتمّ حكمها بطريقة تعسفية قهرية. 

عدم لجم قوى الثورة السورية لهذا الاتجاه الذي ساد لاحقاً، ساهم في هدم أية إمكانية للتغلغل ضمن نسيج حاضنة النظام من بوابة القوى الوطنية الديمقراطية فيه، بحيث كان المطلوب إشراك هذه الحاضنة أو أجزاءٍ منها متضررة من النظام في الثورة. هذا الأمر كشف عن غياب رؤية استراتيجية لدى قوى الثورة في فهم طبيعة النظام وتكوينه، وفي فهم آليات عمله، وكذلك في فهم طبيعة الثورة وبرنامجها وأدواتها، مما أضعف القدرة على اختراق بنية حاضنة النظام الشعبية، والتي هي الأخرى متضررة من الصراع السياسي بين النظام الأسدي الذي يبحث عن تأبيد وجوده رغم استنفاذه لدوره التاريخي وبين فئات الشعب المختلفة والمتضررة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً من بقاء واستمرار نظام الحكم، الذي يعرقل كل إمكانية لتطور بنى المجتمع السوري.

قوى الثورة السورية لم تقم حتى اللحظة بإجراء مراجعة نقدية لبنيتها الذاتية، وإجراء مراجعة نقدية لبرنامجها السياسي، وهذا يمكن اكتشافه من خلال عدم قدرة هذه القوى على بلورة موقفٍ ثوري يمثّل تطلعات الشعب السوري في إنجاز مهام ثورته، وتحديداً في ترسيخ حرياته والعمل على بناء دولته الديمقراطية.

إنّ غياب النقد لدى قوى الثورة السورية سمح لقوى إقليمية ودولية بلعب دورٍ حاسمٍ في اتجاهات الصراع السياسي السوري، إذ استطاعت هذه القوى الإقليمية والدولية على تحويل سوريا إلى ساحة صراع عسكري وسياسي بينها، في الوقت الذي تراجعت فيه مطالب الشعب السوري وأهداف ثورته إلى درجة متدنية.

إنّ الوضع الذي وصلت إليه الثورة السورية بعد سبع سنوات لا يبعث الطمأنينة لدى السوريين، فملف الصراع السياسي بينها وبين النظام الأسدي لم يعد ملفاً خاصاً بهما، بل أصبح هذا الملف يخضع للصراعات الدولية بين الدول المنخرطة في الصراع السوري.

هذه الحالة تجعلنا نقول أن الثورة السورية في مرحلتها السابقة هي في حالة ثورة مفوّتة، لم تستطع إنجاز مهامها ولو بالحدّ الأدنى، الذي يفتح آفاق تطور البلاد على بناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية.

المهام التاريخية التي قامت لأجلها الثورة السورية لم يتم إنجازها

ولكن هذا لا يعني أنّ الثورة تلاشت أو ماتت، فالمهام التاريخية التي قامت لأجلها الثورة السورية لم يتم إنجازها، وبالتالي هي مهام ما تزال قائمة، ما دام نظام القهر والاستبداد يقف حائلاً دون تحقيقها.

المهام التاريخية التي تضغط شروط التطور من أجل تحقيقها ليست مجرد رؤية سياسية تصيب أو تخطئ، بل هي تعبير عن درجة تطور موضوعي في الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تخصّ تطور بنى المجتمع السوري. هذه المهام ضرورة تاريخية، فإن عجزت قوى الثورة بصيغتها السابقة عن إنجاز تحقيق هذه الضرورة، فهذا لا يعني انتهاء مبرر وجود الضرورة، بل يعني انتفاء أداة تنفيذها، إذ أن الحامل الثوري لهذه الضرورة لم يستطع استكمال بناء بنيته المتكاملة لإنجاز مهامه، ولكن هناك حاجة لاستكمال بناء هذه البنية، وهذا يتطلب صيغةً جديدة للحامل الثوري، تختلف بنيوياً عن الصيغة الأولى، وتكون أكثر وعياً لدورها التاريخي، وأكثر ارتباطاً بواقعها، بحيث يمكن تحويل دور الخارج إلى معادل قوة، وليس معادل تخريب وهيمنة وسيطرة كما جرى.

الثورة السورية بصيغتها الحالية هي ثورة مفوّتة مرحلياً، وتحتاج بالضرورة إلى عملية نقدٍ واسعةٍ وعميقةٍ على المستويين الذاتي والموضوعي. فهل تتمّ عملية النقد أم أننا سنحتاج إلى ثورة أخرى تصحح مسار ثورتنا الحالية.