الأسد وقسد.. "الكومبارس" ووهم البطولة

2019.08.18 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الخامس من الشهر الحالي، آب 2019، زار وفد عسكري أميركي وزارة الدفاع التركية، وبعد اجتماعات استمرت حتى اليوم السابع من الشهر نفسه، أُعلن عن اتفاق بين الطرفين، يمكن تسميته، اتفاق "المنطقة الآمنة"، مادام إعلان الموافقة على إنشاء هذه المنطقة، هو محور هذا الاتفاق الأساس.

تصعب قراءة هذا الاتفاق بسبب غياب تفاصيله. لكن، لابد من الانتباه إلى تضخيمه إعلامياً، وإلى محاولات كلا الطرفين القول: إنه بالغ الأهمية؛ بما يعني أن عودة المعشوقة "تركيا" إلى الحضن الأميركي أمر قد حُسم بعد أن تصاعدت وقائع الغزل الروسي لتركيا.

في الظاهر، يوحي ما تسرب من الاتفاق بتفاهم شبه منجز، حتى بتفاصيله التنفيذية، ولم يبق إلا الاتفاق على الخريطة الزمنية لهذا التنفيذ. لكن، عند محاولة تلمس تفاصيل أوضح في صورة هذا الاتفاق، فإن اختلاط التفاصيل والتباساتها هي التي تبرز، ويبرز شبهه لاتفاقات عديدة سبقته بين الطرفين ذاتهما خلال السنوات السبع الماضية، تلك الاتفاقات التي أُعلن عنها، ثم أتت الوقائع؛ لتنسفها، ولتفرض البحث عن اتفاق جديد.

في المقدمات التي دفعت أميركا إلى الإسراع لعقد هكذا اتفاق، يمكن ملاحظة تخوفها من تحول حرارة الغزل التركي الروسي إلى وجد، هذا المحتمل الذي دفع أميركا إلى معاتبة تركيا عتاباً أكثر وضوحاً وحدّة. لكن تركيا التي تعرف أهميتها جيداً، وتعرف كيف تستثمرها، سارعت إلى الإعلان عن عملية عسكرية وشيكة في شمال شرق سوريا، دون مشاركة أحد ولا موافقة أحد؛ فلم يكن أمام أميركا إلا وقف عتابها والإسراع إلى احتضان تركيا؛ إذ إن تركيا تهدد بتقويض حليف آخر، فلابد- والحال كذلك- من تأجيل هذه المواجهة بين حليفين لها، لكنهما عدوان فيما بينهما، وأميركا لا تريد التفريط بأي منهما في هذه المرحلة.

في الأسباب المستترة، التي تشكل الهدف الاستراتيجي للسياسة التركية طوال سنوات الصراع في سوريا، تكمن نية تركيا بقضم ما يمكن قضمه من سوريا، سوريا التي أصبحت الآن بلداً منهاراً ومستباحاً، وتتصارع على أرضه مصالح أطراف كثيرة، هذا القضم الذي قد تحاول تركيا تخفيف فجاجته بحجب الاحتلال المباشر- كما حدث لمناطق في غرب الفرات- باحتلال بالوكالة- عبر أدواتها الموالية- لقطاع جغرافي يمتد من ضفة الفرات شرقاً حتى الحدود العراقية، بعمق من 15 كم إلى 32 كم، ما يزال التداول حوله جارياً، مع تغيير ديموغرافي حقيقي على حدودها الجنوبية.

لتركيا حججها في ذلك، فهي: تلوّح بمصير ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري يعيشون فيها، ولابد من منطقة سورية آمنة؛ ليعودوا إليها، هذا غير الخطر التي ترى أنه يهددها، وتريد التخلص منه، وهو: قوات الفصائل الكردية الموجودة على حدودها الجنوبية مباشرة

لتركيا حججها في ذلك، فهي: تلوّح بمصير ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري يعيشون فيها، ولابد من منطقة سورية آمنة؛ ليعودوا إليها، هذا غير الخطر التي ترى أنه يهددها، وتريد التخلص منه، وهو: قوات الفصائل الكردية الموجودة على حدودها الجنوبية مباشرة، بالإضافة إلى متاجرتها باحتمال نزوح ملايين السوريين- الذين تم تجميعهم في إدلب باتفاقات معلومة- في حال قيام روسيا بعمل عسكري واسع لاستعادة السيطرة الكاملة على إدلب وريف حماة، وهذه الملايين التي ستهجر، لابد من منطقة يمكنها اللجوء إليها.

روسيا التي تحكم سوريا عملياً، تجد نفسها محشورة في المستنقع السوري، وهي من أجل ذلك تسعى بكل إمكاناتها إلى إنهاء هذا الصراع، حتى لو تطلب الأمر اقتطاع مناطق من سوريا، ومن أجل ذلك يمكنها الاتفاق مع تركيا؛ فهي على كل حال تجود بما ليس ملكها، وهي مهما وهبت ستبقى الرابحة لقسم كبير من سوريا، وبالتالي: يمكنها البدء بجني ثمار إعادة الإعمار، وبترسيخ نظام حكم تابع لها في مناطق واسعة من سوريا، عدا عن أنها تريد الانتقال بعلاقتها مع تركيا إلى ما هو أعمق وأمتع من غزل مؤقت، كل هذا يدفع أميركا إلى الإسراع بسحب تركيا باتجاهها وردم الهوة الصغيرة التي فرضتها وقائع الحدث السوري، لكن إلى أي حد يمكنها السحب والجذب والشد؟

 لن تفرط أميركا الآن، الآن فقط، بحليفها "الكردي"، وبالتأكيد لن تفرط بحليفها التركي، وهي تسعى إلى اتفاق يضمن بقاء الحليفين في حضنها؛ من أجل ذلك لا توافق على إدارة تركية منفردة لمناطق شرق الفرات، وتقبل بإدارة أميركية تركية مشتركة، وأيضاً لن توافق على العمق الذي تقترحه تركيا للمنطقة الآمنة (32كم)، وتقترح أن يتراوح بين (2 - 14 كم)، وهي لن توافق على ما تطلبه تركيا من سحب السلاح الثقيل من قوات الفصائل الكردية الحليفة لها، وهدم منشآتهم ومراكزهم العسكرية.

وعلى هذا، إذا كانت تركيا تستثمر في ورقة اللاجئين، وترفع حدودها الآمنة بطاقة حمراء. إذاً ما هي الحجج التي توظفها أميركا للإبقاء على دور قوات سوريا الديمقراطية "قسد"؟

منذ أن ألبست "قسد" ثوب محاربة "داعش"، وهي تحاول إقناع الجميع أنها البطل الذي سيدحر "داعش"، وما تزال تصريحات قادة "مسد" و"قسد" تعزف – حتى النشاز- على خطر داعش، وعلى عودتها المحتملة، مع أنهم- منذ أيام فقط- احتفلوا بانتصارهم الأسطوري عليها

منذ أن ألبست "قسد" ثوب محاربة "داعش"، وهي تحاول إقناع الجميع أنها البطل الذي سيدحر "داعش"، وما تزال تصريحات قادة "مسد" و"قسد" تعزف – حتى النشاز- على خطر داعش، وعلى عودتها المحتملة، مع أنهم- منذ أيام فقط- احتفلوا بانتصارهم الأسطوري عليها، إلى درجة أن بعضهم رفع القبعة للـ "ملحمة الكبرى" التي خاضتها قسد ضد داعش في جيب "الباغوز" المحاصر. لكن، ما الذي حدث؛ لتطل فزاعة داعش من جديد، ولكي تستيقظ خلاياها بعد نومها، ولكي تتوالى التصريحات عن تهديدات جديدة لهذا التنظيم المحيّر؟

 لقد أصبحت قصة داعش مدعاة للسخرية حقاً؛ إذ إن كل الأطراف دون استثناء تحاربها، وكل الأطراف دون استثناء تتناوب لاستعمال هذا "الجوكر داعش" لغايات أخرى.

لا تختلف قوات الفصائل "الكردية" في تعاملها مع المستجدات عن التعامل التركي، فتركيا تبتز الأطراف بانتقالها من حضن لآخر، كذلك تفعل "قسد" و"مسد"، التي فتحت باب التفاوض مع نظام دمشق عندما غرّد ترمب تغريدته حول الانسحاب الأميركي من سوريا، ثم عادت وأغلقته بعد أن تراجعت الإدارة الأميركية عن قرار الانسحاب، وها هي تمتدح الحليفة أميركا... المفارقة في الأمر، هو أن تركيا تملك من القوة ما يمكّنها من اللعب على التوازنات والتناقضات بين الأطراف المتصارعة، ولها أدواتها، بينما قادة "قسد" و"مسد" لا يريدون الإقرار بأنهم مجرد أدوات، وأن ما يقرره الآخرون هو ما سوف يفرض عليهم.

أخيراً: ماذا عن "النظام" السوري؟

تشبه معزوفة محاربة داعش التي تعزفها "قسد" إلى حد كبير معزوفة السيادة الوطنية التي يعزفها "النظام" السوري، فقد قام وزير دفاعه بزيارة إلى محافظة الحسكة، وتفقد مواقع عسكرية فيها، وأعطى أوامره بإحداث مواقع عسكرية جديدة، الغريب أن إنشاء ما يقرب من ثلاثين قاعدة عسكرية أجنبية في هذه المنطقة لم تدفع هذا الوزير الألمعي لمثل هذه الزيارة، وترافقت هذه الزيارة مع تصريح الخارجية السورية: أنها ترفض اتفاق المنطقة الآمنة وتعتبره خرقا للسيادة الوطنية السورية...

هكذا تكون المهزلة بأوقح تجلياتها.