وسائل التواصل بين الشهرة والتشهير

2022.09.30 | 05:04 دمشق

ت
+A
حجم الخط
-A

يسود اعتقاد لدى البعض بأن وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة قد أفسحت المجال لفتح نافذة واسعة للتعبير الحر لمن كانت آراؤهم مهمّشة أو كانوا بعيدين كل البعد عن مساحات التعبير المحصورة بنخبٍ متمكنة من أدوات النشر ومن وسائل الاعلام، أو الممنوعين من التعبير لأسباب سياسية وما أكثرها في عالمنا المتقدم في إبداع أدوات القمع ووسائل الحجب. لذلك، ومع انتشار استعمال هذه الوسائط التعبيرية بشكل واسع في الدول العربية عموماً وفي سوريا خصوصاً، تسارعت التعبيرات الصحفية والأبحاث العلمية لاستنتاج حصول قفزة تعبيرية واسعة في المجتمعات العربية التي عاشت عقوداً طويلة من الحرمان ومن كتم الأفواه. ووصل الأمر ببعض الباحثين إلى اعتبار أن الثورات العربية عموماً والثورة المصرية المجهضة خصوصاً ما كان لها أن تنجح في قلب نظام الحكم إلا بمساعدة ثمينة من وسائل التواصل الاجتماعي. وفاضت المجلات العلمية بالأبحاث المحكمة حول ما اصطلح على تسميته بـ "ثورات الفيس بوك".

استنتاجٌ سياسي وعلمي متميّز يمكن له أن يمنح التعليق السياسي أو النص العلمي أسبقية ما أو يجعله متطرقاً إلى موضوعة جديدة لم يسبق أن انتبه الآخرون لها في بداياتها أو أنهم أهملوها عمداً للتركيز على أسباب بنيوية أخرى ساعدت على تفاقم الاحتجاجات ووصلها مرحلياً ومؤقتاً إلى نتائج فعلية. وقد اعتبر من أجمع على وضع هذه الوسائل تحت الأضواء بأن العناصر المفتاحية القائمة عليها هم أعلامٌ بارزة في الحراك الاحتجاجي وصاروا مرجعيات تتوجه إليها الأنظار وتنصت لها الآذان لمعرفة درجة حرارة الاحتجاجات واتجاهاتها وتطوراتها ومآلاتها.

وبعيداً عن النقد العلمي الجاد الذي تم لهذه الفرضية المستعجلة، والذي أثبت بأن اعتبارها مفتاحية لفهم الاحتجاجات لا يعوّل عليه وكذلك إثبات تغيرات استعمالاتها النسبية من بلد إلى آخر، إلا أن السنوات التي تلت ساعة الصفر والتي ازدهرت فيها هذه الوسائل التواصلية وتطورت أشكالها وتوسعت رقعة من يستخدمها، حملت معها الكثير من الأمور التي تستحق الملاحظة والتحليل في مجلدات ضخمة. وفي هذا التوجه، يمكن التركيز بشكل متدرج على عناوين أساسية ارتبطت بهذه الظاهرة المجتمعية والسياسية متعاظمة الأهمية دون أن يترافق ذلك مع تعاظم إيجابياتها المفترضة.

في البحث عن الشهرة، اجتمعت الرغبات من قبل جُلّ المستخدمين والمستخدمات. وهذا في المطلق ليس بالأمر السلبي خصوصاً مع ارتباط هذا المسعى بحمولة فكرية، أو مبدئية، أو قيمية، أو فنية إلخ.. وتصاعد أيضاً في هذا الفضاء التنافس بين الاتجاهات المختلفة فكراً وجنساً وديناً وفئةً وطبقة وإلى آخره. وصار الفضاء الافتراضي وسيلة مساعدة ليس فقط لنشر الأخبار والتنبيه على مواعيد التظاهر وأماكنه، بل أيضاً وخصوصاً للترويج لفكر أو لحامله أو للمدافع عنه أو للمتملّق لصاحبه. وظل الأمر في حدود المعقول على اعتبار أن هذه الوسائل هي إعلامية / إعلانية يحق لمستخدميها ما يحق لسواهم سعياً للتعريف بذواتهم، متضخمة كانت أم متواضعة، ونشر أفكارهم الثرية أو الهزيلة، وترويج سياساتهم الصائبة أو المخطئة، إلى آخره.

في السنوات الأخيرة، ومع تطور الوسائل وتنوّعها وازدياد استخدامها، ومع تعفّن العمل السياسي وارتفاع الشعور بالإحباط والاستقالة من العمل العام، ومع السعي إلى مجاراة الحياة بسلبها وبإيجابيّها، والبحث عن التكيّف مع ظروف القهر والحرمان، ومع الهروب من مرارة المُعاش، وتفريغاً لعقد نفسية أو لخصومات شخصية، أو انعكاساً لغيرة مهنية أو إحلال وظيفي مُبتغى، صارت وسائل التواصل تبتعد شيئاً فشيئاً عن الدور أو الأدوار التي اختارتها بدايةً أو التي ركّزت عليها بداية، لكي تصل إلى مستنقعات آسنة وما تحتويه من أخبار كاذبة ومن شتائم لفظية وتعبيرية ومن رسوم عديمة الموهبة تحمل كنايات جنسية جاذبة للمكبوتين، ولتصبح بالنتيجة المرّة وسائل تشهير.

وفي علم الاتصال، من الصعب جداً أن يمحو نفيٌ لخبر كاذب تأثيره السلبي. وكذا، فمن المنتشر كالنار في الهشيم التطرق إلى خصوصيات من المفضل أن تحتوي على توابل جنسية تجذب إليها المتلهفين من المتطفلين المتزايدة أعدادهم بشكل هائل في مجتمع الاستقبال. فإلى جانب التطفل المحبوب إنسانياً، حتى إن تم نفيه، عند النسبة الأكبر من الناس، هناك انتشار سريع ساعدت عليه التكنولوجيا الحديثة لثقافة التلصص. "ثقافةٌ" يسعى ممتهنها إلى استراق النظر أو السمع إلى ما يخص آخرين، خصوصاً من تجمعهم به مساحات مشتركة على أنواعها.

وكما أن هناك كلام حق يُراد به باطلٌ، ففي وسائل التواصل نشاطات تبدو للوهلة الأولى كمساعٍ للدفاع عن حق إنساني يمكن أن يكون ضحايا امتهانه وانتهاكه من النساء أو الأطفال أو الفئات المستضعفة، ليظهر مع قليل من التمعّن بأنها انعكاسات لأحقاد أو لجهل أو لبحث مجاني عن شهرة آنية. فيكبر بناء التشهير وتزداد المجتمعات شروخاً وشكوكاً وأحقاداً. وفي صنعة التشهير هذا هناك محترفون سرعان ما يتضخّم تأثيرهم في العامة ويصعب محو تنكيلهم اللفظي من مخيلة البسطاء.

الضحايا غالباً ما يكونون بعيدين عن الفضاء الافتراضي بشقّه الارتدادي. فيختارون الابتعاد عن المهاترات ومواجهة الترّهات. وهذا يدفع بالمشهّر الى الاعتقاد بأنه فاز ويفخر بانحرافه.

كلمات مفتاحية