وزير خارجية «هيئة تحرير الشام»

2023.12.11 | 06:03 دمشق

وزير خارجية «هيئة تحرير الشام»
+A
حجم الخط
-A

إذا كنت قد مللت من شرب القهوة بالفناجين العريضة المذهبة فبإمكانك الحصول على ميلك شيك بنكهة الفانيليا أو بنكهة الأوريو وبجانبه قطعة باونتي شوكولا. إذ يقدّم مقهى «كتاب كافيه» خيارات كثيرة من الكوكتيلات والسناكات التي تبدو شهية تحت عدسة كاميرا محترفة حريصة على إظهار رخاء المكان واختلافه عن محيطه بمدينة إدلب حيث تسيطر «هيئة تحرير الشام» التي ما زال كثيرون يحسبونها على السلفية الجهادية.

والواقع أن السلطات الحاكمة هناك، فعلياً ومدنياً، أوضحت توجهها نحو الاستقرار وبناء «المؤسسات» العامة والخاصة التي توحي بدوام زمن السلم الذي أرسته الهدنة التركية الروسية هناك في آذار 2020 بعد هزيمة فادحة مُنيت بها الهيئة والفصائل في زمن الحرب السابق، أسفرت عن خسارة مناطق شاسعة من ريف حماة وإدلب وعن انشغال الهيئة ببناء «القوة الناعمة» كما يروّج إعلامها عند إصلاح الشوارع وتنوير الساحات وافتتاح المولات.

انهارت كذبة أن المقهى مشروع مستقل خاص أنشأته مجموعة شبان محليين محبين للثقافة بعد ترميم بناء كبير قديم بجانب فندق الكارلتون

لا يخرج «كتاب كافيه»، الذي احتفل في أول الشهر الحالي بالذكرى الثانية لانطلاقه، عن هذا المسار، بل ربما كان أحد أبرز رؤوس حربته بالنظر إلى أن وراءه متنفذ قوي من قمة هرم الهيئة كما هي حال المشاريع الكبيرة في إدلب، بعد أن انهارت كذبة أن المقهى مشروع مستقل خاص أنشأته مجموعة شبان محليين محبين للثقافة بعد ترميم بناء كبير قديم بجانب فندق الكارلتون.

فمن الواضح أن دخل المشروبات والمأكولات الخفيفة التي يقدّمها قسم المقهى، وأرباح قسم مبيعات الكتب، غير كافية لتعويض كلفة الأثاث الوثير والطاولات الخشبية الأنيقة ورفوف الكتب ومحتوياتها في قاعات القراءة المخصصة لكل من الذكور والإناث، ولا للمصاريف التشغيلية التي تشمل عدداً وافراً من الموظفين، والتدفئة والتكييف والإنارة والبستنة والخدمات الأخرى. وذلك فضلاً عن الدعم الواضح الذي يحظى به «كتاب كافيه» بتنظيم معرض الكتاب السنوي وعدّة نشاطات مرتبطة أساساً بجامعة إدلب التي لا ينفك أساتذتها عن اصطحاب طلابهم برحلات إلى المقهى، كما تفعل مدارس خاصة تضم أبناء النخب المالية والإدارية والعسكرية. في تجاهل صارخ للبؤس الذي ينتشر بين غالبية السكان، وتغافل عن هشاشة الأمن المهدد في أي لحظة بالقصف إن لم يكن بالاجتياح.

يقدّم «كتاب كافيه» نفسه على أنه مشروع يستهدف المثقفين والأكاديميين وطلاب الجامعات ويواكب اهتمامات الشباب. وتحوي مكتبته مؤلفات إسلامية وسطية من نتاج المدرستين السلفية الحركية أو الإخوانية العامة، وكتباً شرعية خفيفة، وأخرى في التنمية البشرية، ومراجع سياسية، ومنوعات غيرها.

في عام 2012 لم يكن ابن الثالثة والعشرين، المنضم حديثاً إلى الجهاز الإعلامي لجبهة النصرة مؤسسة «المنارة البيضاء»، يتصور أنه سيكون مستثمراً لمقهى بهذه الأهمية في إدلب، المدينة الشمالية التي لم يكن قد زارها على الأرجح، هو المتحدّر من عائلة عربية من ريف الحسكة والمقيم في دمشق حيث كان يدرس اختصاص الترجمة بقسم التعليم المفتوح. كان هذا الشاب الذي سيتخذ أسماء مستعارة عديدة منها نسيم وأبو عائشة وأبو عمار الشامي وحسام الشافعي وأخيراً زيد العطار، قد لاذ بكنف أبي محمد الجولاني مؤسس الجبهة وأصبح من حاشيته المقربين.

نتيجة سنين من المعايشة اللصيقة صار زيد متحدثاً معتمداً باسم قائده بمناصب تتغير بسهولة وفق الظرف وتقلبات التنظيم؛ ناطقاً رسمياً باسم الجماعة المعارضة «جبهة فتح الشام»، ورئيساً لما تسمى «إدارة الشؤون السياسية» في الوقت الحالي. وهي جهة دون تبعية معلنة لكن الفاعلين الأجانب يعرفون أنها تعبّر عن توجهات الجولاني الخاصة وأنها مدخل الصحافيين والباحثين الغربيين للقائه. إذ ينسّق زيد لهم الموعد ويصحبهم من الحدود، فضلاً عن لقائه بمسؤولي وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الخارجية الكبرى العاملة في إدلب، وبممثلين سياسيين ودبلوماسيين وسواهم.

يفضّل زيد أن يجري تعريفه كشخص مستقل، رغم أن جميع من يلتقي بهم يعلمون مدى قربه من زعيم الهيئة ودرجة نفوذه في «حكومة الإنقاذ السورية» المرتبطة بها، إلى درجة أن وزارات منها صارت تعدّ من دائرة صلاحياته الكاملة أو الجزئية؛ كوزارة الإعلام، والتنمية والشؤون الإنسانية، والصحة، والتربية، فضلاً عن ملف العلاقات الخارجية الذي ألمح الجولاني إلى أنه قد يُفرد بوزارة في المستقبل.

مهمة زيد تتناقض مع النزعة الأمنية للهيئة، ومع طموح الجولاني بالتمدد قسراً نحو مناطق سيطرة «الحكومة السورية المؤقتة» المعترف بها خارجياً رغم ضعفها الفعلي

لكن هذا يتضارب مع السرّية التي يحيط بها زيد نفسه حين لا يفصح عن اسمه أو صورته، ومع غموض «إدارة الشؤون السياسية» التي تمتنع عن وضع برنامجها وهيكليتها وكادرها المفترض تحت الضوء، إلا ما تكرمت به مؤخراً من تعيين متحدث باسمها هو عبيدة الأرناؤوط ومن إضافة كلمات توحي بتبعيتها الشكلية لحكومة الإنقاذ. كما أن مهمة زيد تتناقض مع النزعة الأمنية للهيئة، ومع طموح الجولاني بالتمدد قسراً نحو مناطق سيطرة «الحكومة السورية المؤقتة» المعترف بها خارجياً رغم ضعفها الفعلي.

وعلى كل حال فإن النشاط الذي كثفته «إدارة الشؤون السياسية» في الأشهر الماضية لم يفصح إلا عن منشوراتٍ مناسباتية في القضايا السورية والعربية والإسلامية، واستعادة تواريخ مفصلية كذكرى اندلاع الثورة أو تحرير إدلب من قوات النظام. وقتئذ، في آذار 2015، لم يكن زيد قد بلغ درجة النفوذ الكبيرة التي هو عليها الآن، وكانت المهمة التي شدّد الجولاني على تكليفه بها هي الوصول إلى القادة المقتحمين في الصف الأول والحصول منهم على كرسيّ المحافظ ليتصدّر عليه «الفاتح» في مقابلته مع قناة الجزيرة.