وداعا لينين.. أهلاً ماركس

"وداعًا لينين" من أشهر الأفلام الألمانية، وهو مصنفٌ فئةً بين أفلام الكوميديا السوداء، ويوثق روائيًا لزوال حقبة الاشتراكية، وسقوط جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة، واتحاد ألمانيا الشرقية والغربية بعد فرقة صعبة، يبدو أن أغنية "احنا شعب وانتو شعب" قد رقص على أنغامها شعوب كثيرة بلغات مختلفة!

ويروي الفلم قصة أم صبيين أنكرت نفسها بعد اعتقال أحد ولديها، وهروب زوجها إلى ألمانيا الغربية من بطش الشرقية، فبالغت في إظهار الولاء نفاقًا وإيثارًا للسلامة، ثم أنها مرضت، وفاقت بعد غيبوبة، سببها صدمة اعتقال ابنها، وقد توحدت ألمانيا وانتصرت الرأسمالية الليبرالية على الاشتراكية الشيوعية، فيعمد ابنها بالتعاون مع الجيران إلى خداعها تخفيفاً للصدمة عليها من تبدل الأحوال، وتطويلًا لعمرها، وإقناعًا لها بأن الحال لا يزال كما هو، من أجل النهاية السعيدة.

يشكو المهاجرون السوريون وغير السوريين من الإقامة في ألمانيا الشرقية الاشتراكية سابقًا، بسبب ارتفاع منسوب العنصرية فيها مع أن الاشتراكية كانت تحرّم العنصرية وتجرّمها، وهو مرتفع في الاشتراكيات السابقة وأدنى في الرأسماليات! وتقتطع حكومة ألمانيا ضرائب من الغربية لصالح الشرقية سابقًا تلطيفا للصدمة وعونًا لها على ارتقاء الليبرالية لحاقًا بقطار الحداثة والليبرالية الغربية والبداية السعيدة.

أعلن معظم مفكري الاشتراكية واليسار العربية تحولهم إلى الليبرالية أو تحولوا إليها من غير إعلان

تقع الدول الاشتراكية في سلم أدنى من جميع الدول الليبرالية سلاحًا وفناً وأدبا وخدمات اجتماعية، ونجد مثالها في روسيا، أما كوريا الشمالية فهي أحد أسوأ الدول على الأرض في معدلات الحرية. أعلن معظم مفكري الاشتراكية واليسار العربية تحولهم إلى الليبرالية أو تحولوا إليها من غير إعلان، لكن للرأسمالية سوءاتها وعيوبها، ولم تكن أقل بطشًا بالشعوب المستعمَرة. وبينهما فروق فالرأسمالية أذكى وأطول عمرا.

ثمة عودة للرموز الاشتراكية والشيوعية والماركسية في السينما والسياسة، منها أنّ الرئيس الروسي بوتين استعان بالعلم السوفييتي الأحمر منجلًا ومطرقة، وهو يقتحم أوكرانيا، فرفعه خفاقا إلى جانب العلم الروسي. وقد عاد لينين وماركس إلى بعض الأفلام الحديثة، مثل فلمي: "جاي بهيم" الهندي، وفلم "الزلاجتان الفضيتان"، والثاني من إنتاج نتفلكس، وهو من تأليف وإخراج أميركي تدور أحداثه في بدايات القرن العشرين، في روسيا، وغير خاف أن أميركا تؤازر حزب العمال الكردستاني، وهو حزب ستاليني لينيني النشأة والإيديولوجيا والبنية، الحزب نفسه يستفيد من روسيا وأميركا معًا! الصين الشعبية، نقضت عهدها وجمعت بين المنهجين الرأسمالي والاشتراكي، وأخذت روسيا نجيبة السوفيات بكثير من الليبرالية، وللرئيس الروسي مرشح رئاسي دوبلير اسمه مدفيف يقوم عنه ببعض الأدوار السياسية، ونشأ يسار أميركي، لقد تبادلت الأيديولوجيتان الأميركية والشيوعية التأثير والتأثر، أما الاشتراكية عربيًا، فخنست، ولم يعد يسمع بها كثيرًا أو قليلًا في سوريا أو مصر أما اليمن فصارت حوثية إمامية!

قصة فلم "جاي بهيم" مأخوذة من ملفات محامٍ هندي يساري يدافع عن طبقة المنبوذين وانتصف لضحايا بالآلاف، ويروي قصة تحقيق المحامي في مقتل منبوذ هندي، اتهم ظلمًا بسرقة حلي ذهبية، ومات تحت التعذيب، تظهر في الفلم تماثيل لينين وصور لماركس على مكتب المحامي، الذي لعب دوره الممثل الهندي "سوريا سيفا كومار"، أما بطل فلم "الزلاجتان الفضيتان" فصبي فقير ورث زلاجتين عن والده الذي كان يعمل وقادًا يضيء مصابيح شوارع بطرسبرغ. يطرد الفتى من العمل، وعمله ساعي بريد يوصل الطرود، بسبب موكب أحد النبلاء الروس، فتغريه عصابة نشالين بالانضمام إليها، العصابة تنشل الساعات والميدالايات والمال من جيوب الأغنياء، يقع الفتى في حب حسناء من بنات الأشراف الروس همّ بسرقتها، وتبادله الصبية الحب، ثم يعنُّ له التوبة عن السرقة بعد موت والده المسيحي التقي.

الفلم مقتبس من  قصة روميو وجولييت، التي اقتبست منها عشرات الأعمال السينمائية الهندية، الفلم ساحر بأجوائه وأمكنة تصويره، وقصته أميركية هوليودية في مكان روسي، على طريقة الأكشن الأميركية في أفلام "ساعة الذروة"، جديد الفلم الأميركي المروّس، الإمبريالي الممركس، أنَّ النشالين يتعاطون كتب كارل ماركس، فأحداث الفلم على مشارف الثورة البلشفية، ويدافعون عن بعضهم بإخلاص، وينشلون الأغنياء على طريقة روبين هود، ينجح الفتى في نهاية الفلم السعيدة بنشل قلب الصبية الحسناء، ويفوز بحبها، فتفارق طبقتها وتهرب معه إلى باريس، ويقتنع والدها بصواب قرار زواجها من الصبي الفقير.

يقول الكاتب السوري خالص شلبي بالنوسان الحضاري كنظرية في تقاطب الحضارات وتحولها من القطب إلى نقيضه، ويقول نجيب محفوظ في رائعته الحرافيش إن "آفة حارتنا هي النسيان". لن يمانع القاتل في المشي في جنازة القتيل، بل قد يبكي عليه، مادام خطره قد زال، ربما يقتدي ببعض شمائله.

عاد ماركس إلى بعض الأفلام بعد وداع لينين لكن قديسًا ورمزًا، وصورة للذكرى والبركة

كتب مفكرون إسلاميون عن اشتراكية الإسلام إبان صعودها، مثل مصطفى السباعي في كتابه اشتراكية الإسلام، وصنف مؤرخو جمال عبد الناصر وسياد بري في اليسار الإسلامي. أفلتْ الاشتراكية لكن ثمة من يحنُّ إلى عهد الكسل والشبع.

عاد ماركس إلى بعض الأفلام بعد وداع لينين لكن قديسًا ورمزًا، وصورة للذكرى والبركة. الإمبريالية نفسها تأثرت بالشيوعية، يمكن أن نتذكر كيف ساد الترك والفرس في العهود العباسية، وتلاهم الأيوبيون والمماليك، وها هي ذي الأقليات العرقية من المهاجرين تسود في أميركا فقد تعلموا بعد قرون من الكفاح، ولهم أصوات انتخابية، ومناصب عليا في الجيش والمؤسسة الرسمية.