هوكشتاين في بيروت

2023.09.13 | 07:09 دمشق

هوكشتاين في بيروت
+A
حجم الخط
-A

في الشرق الأوسط تتردد أحاديث كثيرة في الأروقة الدبلوماسية مختصرها يفضي إلى أن "التنمية الاقتصادية سوف تغني عن الحروب"، وهذا بالفعل ما أتى باحثاً عنه المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين مبعوث وزارة الخارجية الأميركية في إدارة بايدن لشؤون الطاقة.

فبعد نجاحه المنقطع النظير في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والتي أحدثت زلزالاً سياسياً واستراتيجياً استشرف تغييراً كبيراً في الجيواستراتيجيا في الشرق الأوسط، بحيث ولأول مرة تم عقد صفقة سياسية بين حكومتين متحاربتين وفي ظل وجود نفوذ إقليمي هائل مرتبط بطرف عسكري فاعل على الأرض اللبنانية يمتلك حق الفيتو في القرار اللبناني ألا وهو الطرف الإيراني المرتبط بحزب الله، بحيث لا يمكننا نهائياً القول بأن ترسيم الحدود البحرية بين الجارين، تم من دون موافقة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا ما يعرفه ويدركه الجميع.

الأهم في هذا الاختراق إن حدث هو فصل المسارين التفاوضيين السوري عن اللبناني، الذي لطالما استخدمت عبره الورقة اللبنانية في مفاوضات ثلاثية شملت الجيران في مثلث جبل الشيخ، بحيرة طبرية، الجولان

تأتي زيارة هوكشتاين مجدداً إلى بيروت من أجل متابعة منجزه الأخير وربما إكماله، فالحديث والجولات المكوكية حالياً تدور حول ترسيم الحدود البرية بين الدولتين، الذي سيمثل خرقاً كبيراً في العلاقات في الشرق الأوسط وتحولاً في عمليات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، فترسيم الحدود البرية سينهي فعلياً ذريعة النزاع العسكري بين إسرائيل ولبنان ككيانين سياسيين، بحيث لن يقف الأمر عند تبادل للمربعات الحدودية وتسوية تنهي الخلاف حول الخط الأزرق وإعادة رسمه ليكون خطاً حدودياً معترفاً به دولياً بين "دولتين جارتين"، خاضتا حملات عدائية وعسكرية ضمن معادلات صفرية طوال سبعة عقود، بما يتضمن احتلال واحدة منهما لأراض الأخرى لعقود.

ولكن الأهم في هذا الاختراق إن حدث هو فصل المسارين التفاوضيين السوري عن اللبناني، الذي لطالما استخدمت عبره الورقة اللبنانية في مفاوضات ثلاثية شملت الجيران في مثلث جبل الشيخ، بحيرة طبرية، الجولان.

فما بين الاعتراف بحدود 1923 وحدود حرب الأمر الواقع عام 1967، تداخلت الأوراق في المفاوضات على مناطق في الحدود بين الدول الثلاث مثل الحدود المضطربة في قرية الغجر ومزارع شبعا. فكان النظام السوري يستخدم الورقة اللبنانية من ضمن طيف من أوراق يستخدمه في مفاوضاته العلنية مع الولايات المتحدة من أجل إتمام عملية السلام. اليوم بعد أن تحولت الأرض السورية إلى ساحة للصراع الإقليمي والدولي بدلاً عن كونها تستخدم دول الجوار لممارسة المفاوضات عسكرياً وسياسياً. بات المسار اللبناني مفتوحاً بضوء أخضر إيراني أمام صفقة من هذا النوع، بالطبع يأتي الضوء الأخضر الإيراني بعد مفاوضات عسيرة تجري سراً في عُمان أفضت إلى انفراجات متتالية بين طهران وواشنطن، كان آخرها الإفراج عن المليارات الستة في كوريا الجنوبية وإطلاق سراح عدد من المختطفين في إيران من التابعية الأميركية.

بكل تأكيد تراهن إيران من ضمن خياراتها السيئة على إدارة بايدن إذا ما قورنت بأي إدارة جمهورية من الممكن أن تحل محل الإدارة الديمقراطية الحالية التي تحكم البيت الأبيض، فاحتمالية وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستُعقد جهود إيران في المنطقة، من ضمن منطقه المتشدد تجاه العقوبات القصوى والضغط الأعلى على طهران من أجل إخضاعها، لذلك تفضل طهران تقديم هدية انتخابية لبايدن قبل الانتخابات بسنة واحدة.

الوضع الشعبي في إسرائيل يشبه إلى حد كبير الوضع الشعبي لحزب الله، كلاهما متخمٌ بالشعارات اليمينية التي ترفع السقف عالياً، ويدركان أن القاعدة الشعبية لتحالف نتنياهو متعبة مثلها مثل القاعدة الشعبية لحزب الله

سيقوم آموس هوكشتاين الذي يلتقي بالمسؤولين اللبنانيين حالياً، وهو إسرائيلي المولد، يهودي خدم في الجيش الإسرائيلي لمدة أربع سنوات. بالإشراف على عمليات الاستثمار في حقول الغاز البحرية، وسيقوم بتقسيم حصص الشركات في التنقيب والاستخراج، بين شركات توتال الفرنسية وايني الإيطالية وقطر للغاز. وهو يعلم علم اليقين بأن عمليات الاستخراج المنتظرة في البلوكات اللبنانية ستجعل كماً كبيراً من السيولة المالية تتدفق في أيدي الحكومة اللبنانية الغارقة في اتهامات كبيرة بالفساد والتخبط الإداري، وفقدان الثقة الشعبية والانهيار المالي في البلاد، وهو يعلم بأن جميع الأطراف السياسية في لبنان ستتقاسم الموارد حسب محاصصات توازي المحاصصات الطائفية في البرلمان، عبر صناديق التنمية المحلية في المحافظات اللبنانية، وكل هذه التنمية تحتاج هدوءاً واستقراراً عسكرياً من أجل بدء استخراج الغاز، وكسب ثقة المستوردين واستمرارية عمل المنصات الغازية، لذلك فإن أي عملية عسكرية أو تهديد أمني سيعلق التصدير وتؤول المسألة برمتها إلى نقطة الصفر، لذلك فإن ترسيم الحدود البرية وإن كان سيبدو عملية سلام منقوصة، أو غير معلنة، أو عملية تطبيع خجولة بين طرفين محرجين أمام شعوبهما. هي حل مناسب جداً للحكومتين اللبنانية والإسرائيلية وكل من يدعمهما، فالوضع الشعبي في إسرائيل يشبه إلى حد كبير الوضع الشعبي لحزب الله، كلاهما متخمٌ بالشعارات اليمينية التي ترفع السقف عالياً، ويدركان أن القاعدة الشعبية لتحالف نتنياهو متعبة مثلها مثل القاعدة الشعبية لحزب الله.

ما يثير الانتباه في هذه العمليات السياسية الخاطفة هو الصمت الإعلامي الكبير بين جميع الأطراف، فإعلام "المقاومة والممانعة" لم يأتِ على ذكر ترسيم الحدود البحرية، ولم يتناول ترسيم الحدود البرية المزمع بالطبع، بينما إعلام حلف الاعتدال كذلك تناول الموضوع وكأنه إجراء روتيني، فيما هو اختراق هائل بين قوى متصارعة، ولو شكلياً أو إيديولوجياً فوق هذا الفضاء الجغرافي المتعب، من دون أن ننسى أهمية المفاوضات الإيرانية والسورية كل على حدة مع الولايات المتحدة في عُمان، فلقد شملت بشكل من الأشكال الحديث عن الشروط اللازمة لتوقيع اتفاقية تطبيع مع سوريا كذلك. إن لزم الأمر حتى لو كانت اتفاقية لترسيم "الحدود البرية".