هل من تراجع للعواطف القومية الدينية في عالم السياسة؟

2023.07.01 | 08:52 دمشق

هل من تراجع للعواطف القومية الدينية في عالم السياسة؟
+A
حجم الخط
-A

إذا أردنا استخلاص العبرة من الأحداث الكبرى التي حصلت في العالم خلال العقود القليلة الماضية يمكن أن نقول: إن الشعوب اليوم لم تعد تؤمن بدور العواطف القومية والدينية والأيديولوجية في السياسة. فالناس اليوم لم يعودوا يهتمون كثيرا بالأحلام القومية أو بالمشاعر الدينية أو الأيديولوجيات الكبرى، يسارية كانت أم دينية.

ويبدو أن مثل هذا التراجع هو الذي يفسر ثورات الربيع العربي، وقبلها ثورات أوروبا الشرقية السريعة جدا، وليس انتهاء بتراجع شعبية الميليشيات الإسلامية في سوريا والعراق، ولا بتراجع الأحزاب الإسلامية في الانتخابات خلال السنوات القليلة الماضية، ولا حتى بالوضع الصعب الذي يعاني منه بوتين نتيجة جريه وراء أحلام قومية أعتقد أنها ستجعله في مأمن وتضمن بقاءه في سدة الحكم.

جميع الأنظمة السياسية التي تعتمد العواطف الدينية والقومية كأيديولوجية أساسية من أجل البقاء في السياسة تعاني اليوم، وتدفع الأموال الطائلة وتقدم التنازلات الكبرى، كما أن قلقها يزداد يوما بعد يوم من انخفاض مستوى ثقة شعوبها فيها. فها هي إيران تستعد كل فترة لموجة من الاحتجاجات بسبب أن الإيرانيين لم يعودوا يهتمون بالهوية الدينية للسلطة في إيران، وهذه السعودية التي خففت كثيرا من اعتمادها على الأيديولوجية السلفية وأخذت تتبع سياسات أميل إلى الإسلام الوسطي.

حتى الصين قطعت أشواطا كبيرة في قطيعتها مع الأيديولوجية الشيوعية وتحولت بكل قوة إلى عالم الاقتصاد والأعمال والرأسمالية، ولم تعد تعني السياسة لها سوى حسابات ربح وخسارة. 

لقد اتخذت غالبية الدول غير الديمقراطية من العواطف القومية والدينية وسيلة سهلة وشعبية للهروب من الديمقراطية. أما الشعوب فاحتاجت إلى فترة من الزمن حتى أخذت تدرك مثل تلك الاستراتيجية، وهذا ما يفسر حصول بعض الانفجارات هنا أو هناك، كان آخرها ما حصل قبل يومين في روسيا، إذ أخذ غالبية الروس يدركون عبثية الأحلام القومية لبوتين، من دون أن يعني ذلك عدم وجود ملابسات أخرى كثيرة دخلت على الخط.

أهم من درس أثر العواطف في السياسة هناك عالم السياسة الأميركي غابرييل ألموند الذي بيّن أن غالبية الدول التسلطية تعتمد على نمط في الثقافة السياسية سمّاه "الثقافة السياسية الرعوية"

يذكر أن للعلاقة المعقدة بين "السياسة" و"العواطف" دورا مهما في الدراسات السياسية المعاصرة، حتى إن كانديدا ياتس يعتقد في كتابه "اللعب في الثقافة السياسية – العواطف والهوية" أن تكوين "هوية عاطفية" سياسية للناس أمر في غاية الأهمية ولذلك يلعب الجميع بهذه الهوية ويهتم بتوجيهها.

غير أن أهم من درس أثر العواطف في السياسة هناك عالم السياسة الأميركي غابرييل ألموند الذي بيّن أن غالبية الدول التسلطية تعتمد على نمط في الثقافة السياسية سمّاه "الثقافة السياسية الرعوية" The subject Political Culture. وفي هذا النمط تعتمد الحكومات على العواطف واستثارة مشاعر الولاء القومي أو الديني أو العشائري أكثر من اعتمادها على السياسة بوصفها إدارة لمصالح الشعوب وتنظيم مؤسسات الدولة. حتى تتحول الهوية إلى أمر أهم من الخبز. فليس هناك أسهل من أن تحكم عن طريق تخويف الناس على هوياتهم كما يردد إدغار موران، أو تحويلهم إلى رعايا لا يعرفون سوى الطاعة والالتزام بأوامر راعيهم.  

يذكر أن كلمة "راعي" كانت كلمة عزيزة جدا على حافظ الأسد، إذ كانت وزارتا التربية والتعليم العالي تملآن الشوارع بلافتات تصفه بأنه "راعي العلم والعلماء".  حتى بشار الأسد أعجبه هذا اللقب فورثه عن أبيه.

إذا كان القرن الثامن عشر عصر الثورات (حتى منتصف القرن التاسع عشر)، وإذا كان القرن التاسع عشر عصر الإمبراطوريات، والقرن العشرين عصر الحروب العالمية أو عصر التطرف بحسب إيريك هوبسباوم، فإننا يمكن أن نتنبأ بأن القرن الواحد والعشرين سيكون عصر انحسار العواطف القومية والدينية وكل الأيديولوجيات من عالم السياسة. وأنه القرن الذي سيخسر فيه كل حاكم يريد أن يدير السياسة عن طريق العواطف والقلوب.

إذا كان الانتماء الديني والقومي أمرا يعتز به كل البشر أيا كانت دياناتهم أو قومياتهم، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن الناس تقبل بأن يتم استغلال هذا الانتماء لكي يقدموا تنازلات لحكامها، ولا يعني أن الناس تريد الدخول في حروب قومية أو دينية

وهذا لا يعني أن الناس الذين يعيشون في بلدان غير ديمقراطية أصحبوا أكثر اهتماما بالماديات وطرق عيشهم من اهتمامهم بقومياتهم وأديانهم بقدر ما يعني أنهم أخذوا يدركون أن كرامتهم تتحقق من خلال حقوقهم بوصفهم أفرادا وآباء وأمهات وموظفين وما إلى ذلك، وليس بوصفهم أبناء قومية أو دين معين. وإذا كان الانتماء الديني والقومي أمرا يعتز به كل البشر أيا كانت دياناتهم أو قومياتهم، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن الناس تقبل بأن يتم استغلال هذا الانتماء لكي يقدموا تنازلات لحكامها، ولا يعني أن الناس تريد الدخول في حروب قومية أو دينية، هي على الأغلب حروب عدمية ليس فيها سوى خاسر واحد هو الشعوب.

حتى إن موقف العربي، ولا سيما السوري، اليوم من المستثمرين في العواطف السياسية، سواء كانوا دينيين أم قوميين أم يساريين هي واحدة، ولا فرق عنده بين أيديولوجية وأخرى. لأن الجميع يريد أن يهرب من الديمقراطية وحقوق الناس، وليس هناك شيء آخر خلف ذلك الاستثمار.

فالروسي اليوم ليس مستعدا للاستمرار في حرب طويلة من أجل أحلام قومية، والسوري في المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام لا يهمه أيديولوجية الفصائل المسلحة بقدر ما يهمه سلوكياتها، والعراقي أصبح أكثر إدراكا أن الطائفية السياسية ليست أكثر من لعبة للتغطية على أرقام الفساد المرعبة.  

أما المتأدلجون العرب من اليمين واليسار فتجدهم انحازوا إلى صف المستبدين. وهذا ما يفسر تراجع القسم الأكبر من اليسار العربي بوصفه حركة تحرر وعودته إلى حضن الطغاة من دون أي حرج، مبررا تراجعه بحجج أيديولوجية. مثلما يفسر انحياز المحافظين والقوميين العرب إلى صف المستبدين، ولكن بحجج قومية ودينية تكشف ضعف وعيهم السياسي وعدم تحليهم بشجاعة نقد الذات.  

نختم بالقول: إن مستوى الوعي السياسي للشعوب التي ترزح تحت وطأة أنظمة غير ديمقراطية قد بلغ مستوى أخذ يعلي فيه من الحقوق أكثر من الواجبات، ومن متطلبات العيش أكثر من الهوية، ومن الحرية أكثر من الأمان. وإذا كانت العواطف القومية تجلب الاعتزاز والشموخ والهوية فإنها تجلب أيضا الدمار والخراب والمستقبل العدمي، وما حصل لبوتين قبل أيام، على قلة تأثيره، ليس إلا علامة من علامات ساعة انهيار الأحلام القومية والدينية، تلك الأحلام التي دفعت البشرية ثمنا لها مئات الملايين من الضحايا عبر تاريخها الطويل.