هل بالفعل ليس للسياسة علاقة بالأخلاق؟

2022.12.12 | 06:20 دمشق

ttttal.jpg
+A
حجم الخط
-A

تنتشر على نطاق واسع بين السوريين، والعرب عموماً، المقولة الشهيرة التي تقول لا علاقة بين الأخلاق والسياسة، وأن مصالح السياسة ودهاليزها في واد والقيم الأخلاقية والإنسانية في واد آخر.

حتى إنهم يمكن أن يسردوا عشرات الوقائع والأحداث المعروفة التي تثبت هذا الرأي من قبيل: غزو الأميركان للعراق بناء على كذبة أن لدى النظام العراقي أسلحة محرمة دولياً، كذبة أوباما حول الخط الأحمر السوري وتراجعه عن معاقبة نظام الأسد بعد استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، دعم الغرب الديمقراطي لأنظمة غير ديمقراطية، رغبة إسرائيل بتسلم بشار الأسد للسلطة عام 2000 على الرغم من العداوة الظاهرة بينهما، عدم التدخل الجدي من قبل ما كان يعرف حينها "أصدقاء سوريا"، لمساعدة السوريين في ثورتهم، والقائمة تكاد لا تنتهي.

وعلى العموم تعود هذه النظرة الضيقة للسياسة إلى مكيافيلي الذي برّر للحكام القيام بكل شيء في سبيل مصالحهم، حتى ولو بطريقة غير أخلاقية، من قبيل الكذب واللجوء إلى الفتن وما إلى ذلك، وهو ما يلخصه مبدؤه الشهير "الغاية تبرّر الوسيلة" (لم يقله بشكل صريح في كتابه الأمير).

غير أن المدقق في عالم السياسة الحديث يجد أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن الأخلاق هي إحدى محركات السياسة الكبرى في عالم اليوم، ولكن هذا الأمر لا يعني أن تقف ضد مصالحك لكي تحقق مصالح الآخرين، ولا يعني أن ترسل جيوشك لتحارب عن الآخرين، أو حتى تحارب مع الآخرين في حرب لا تعنيك، ولا أن تساعد من كان عدواً لك في يوم من الأيام. ثم لماذا تكره إسرائيل عدواً يعمل كل شيء إلا إزعاجها بشكل حقيقي.

وهنا علينا أن نعترف بأن بشار الأسد والميليشيات الإسلامية المسلّحة نجحت في إقناع إسرائيل، والغرب عموماً، بأن السوريين غير مستعدين للديمقراطية بعد، وأنه لن يأتي من ورائهم سوى وجع الرأس (قناعة البيت الأبيض أن الثورات العربية ستجلب الإسلاميين للسلطة).

للتجارة أخلاق ولكل مهنة أخلاقها، وهذا يعني أن للسياسة أخلاقاً أيضاً، ولا يجوز التفكير بالتجارة والسياسة على أنهما جمعيات خيرية أو مركز لمساعدة من لم يتمكن من حل مشكلاته. التفكير بهذه الطريقة يعد قصوراً في الوعي الأخلاقي وفي الوعي السياسي أيضاً

للتجارة أخلاق ولكل مهنة أخلاقها، وهذا يعني أن للسياسة أخلاقاً أيضاً، ولا يجوز التفكير بالتجارة والسياسة على أنهما جمعيات خيرية أو مركز لمساعدة من لم يتمكن من حل مشكلاته. التفكير بهذه الطريقة يعد قصوراً في الوعي الأخلاقي وفي الوعي السياسي أيضاً. ففي التجارة مثلاً نجد أن من يساهم في 70% من العمل يجني النسبة نفسها من الأرباح وإذا طالب أحد المساهمين الصغار بأعلى من نسبته فيعد هذا أمراً لا أخلاقياً.

فالأخلاق تعني أن تجني بقدر ما تعمل، أما أن لا تعمل وتجلس تندب حظك وتوزع التهم على كل من تقع عليه عينك فهذا هو الأمر غير الأخلاقي. بحسب المفكر البريطاني المعروف برتراند رسل فإن السياسة هي مصدر الأخلاق. فالناس اجترحوا قواعد أخلاقية لكي تنظم حياتهم السياسة. حتى الحروب والغزو والاستعمار واستعباد العبيد تم وضعها ضمن قواعد أخلاقية. أما الفصل بين المصالح والأخلاق فهو أمر مستغرب من قبل السوري المعاصر لأن إحدى تعريفات الأخلاق المشهورة هي مراعاة واحترام المصالح والمكاسب العامة للجميع.

ليس صحيحا أن من يكذب لا يدان من قبل الشعوب. فالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش كان أقل الرؤساء شعبية في وقت من الأوقات بسبب عدم مصداقيته، وهناك عشرات المسؤولين الكبار الذين تركوا مناصبهم لاكتشاف كذبهم. وفي هذا الشهر يقود الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارض في السويد حملة واسعة في البرلمان لكي يثبت بها أن رئيس الوزراء الحالي كذب في عدد من القرارات. وهذا يعني في النهاية أن الكذب مدان بشكل مبدئي.

تبقى قضية الازدواجية هي التي تثير شكوك السوريين حول أخلاقية السياسة. فالأنظمة الغربية الديمقراطية تشهر على ضمان حقوق ومصالح شعوبها، وبالمقابل تضرب بمصالح وحقوق السوريين، وغيرهم من شعوب العالم العربي والإسلامي، عرض الحائط. وهذا صحيح بالطبع وكل الشواهد التي يوردها السوريون مثبتة في الواقع، ولكن هل مهمة الدول الديمقراطية الغربية مناصرة الشعوب التائقة إلى الحرية؟

السوريون يقولون هذا واجبهم فهم شعوب ديمقراطية وعليهم مساعدتنا للوصول إلى الضفة الأخرى، حتى إن لحم أكتافهم من خيرنا نحن الشعوب المستعَمرة. الغربيون يقولون أيضاً نعم، ولكن ضمن الإمكانات المتاحة، وبشرط ألا يسبب ذلك أخطار الانجرار إلى صراعات وحروب تضر بمصالحنا. فالمزاج الغربي العام، منذ بداية القرن الواحد والعشرين تقريباً، ولا سيما بعد حرب العراق عام 2003، لا يميل إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى. والأحزاب السياسية بدأت تخاف من ذلك لأنه على الأغلب يكون على حساب رفاهية المواطن الغربي، وهذا يؤثر كثيراً على الانتخابات. مما قد يعني في النهاية أن الدعوة لكي يكون الغرب أخلاقياً مثالياً معنا تعاني من تضخم الذات، أو ما يسميه علم النفس "الوعي المتمركز حول الذات"، أو إسقاط مصالحي على الآخرين.

الأخلاق في السياسة تعني أن يكون المرء مسؤولاً عن أفعاله وحساباته السياسية لا أن يحمّل المسؤولية على الآخرين. والديكتاتوريات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط هي مسؤولية أهل المنطقة، حتى لو استفادت تلك الديكتاتوريات من تعقد شبكة المصالح مع الغرب. وحسبنا أن ثورة السوريين قد أيقظت في نفوس السوريين أخلاق المسؤولية التي لولاها لما اندلعت انتفاضة السوريين في وجه زعيم واحدة من أعتى دكتاتوريات العالم المعاصر، وحولته إلى مجرد كرة يتلاعب به كل من هب ودب.

أخلاق الاعتقاد تقول إن الظروف في النهاية تفرض نفسها وأن الآخرين الأشرار هم سبب كل المشكلات. أما أخلاق المسؤولية فتجعل المرء مسؤولاً عن كل أفعاله وأفعال الآخرين، عن أخلاقه وأخلاق الآخرين.

يميز ماكس فيبر بين أخلاق الاعتقاد وأخلاق المسؤولية لكي يقول لنا إن العالم يتجه إلى التفكير عبر أخلاق المسؤولية وليس أخلاق الاعتقاد.

أخلاق الاعتقاد تقول إن الظروف في النهاية تفرض نفسها وأن الآخرين الأشرار هم سبب كل المشكلات. أما أخلاق المسؤولية فتجعل المرء مسؤولاً عن كل أفعاله وأفعال الآخرين، عن أخلاقه وأخلاق الآخرين.

وهنا نصل إلى جوهر فكرة أخلاق المسؤولية التي تجعلنا نحن المسؤولين عن كل ما يجري لنا في هذا العالم. ولعل هذا التمييز بين نوعي الأخلاق هو ما يفسر لماذا نجحت جنوب أفريقيا والأرجنتين وماليزيا والهند وغيرها كثير من الدول، بينما ما زلنا نحاول حتى الآن، على الرغم من أن المستعمر واحد، وأن لا أخلاقية الغرب واحدة في الحالتين.

العالم كله جزع من تراجع العلاقة بين الأخلاق والسياسة حتى إن أكبر مفكر سياسي غربي، وهو جون رولز، يرى أن الغرب إذا لم يكن أكثر عدالة فإنه لن يتقدم، وستزداد مشكلاته، ويتفق معه في هذه النظرة الحذرة هابرماس وإدغار موران، اللذان يريان أن مفتاح الحياة السياسة المعاصرة هو المسؤولية المشتركة بين الجميع وجعل الذات هي المسؤول الأول عن كل شيء.

وهذا يعني أن مشكلة التنظير بأن الغرب لا أخلاقي لا يراعي بأن للغرب في النهاية دولا وأحزابا وشعوبا مثلها مثلنا لها مشكلاتها الخاصة، وتعقيدات الحياة السياسية عندهم تزداد بشكل دائم، ولا تقع مساعدته للشعوب الأخرى إلا في آخر اهتماماته، كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي العام هناك.

معزوفة أن الغرب لا أخلاقي معزوفة نظام الأسد والقاعدة وداعش، وكل من يريد أن يتسلط على السوريين. ويعود انتشار هذه المعزوفة إلى أنها مريحة وتعفينا من التفكير بالأسباب الحقيقية لمشكلاتنا. ولا سيما أن المراجع للتاريخ لا يمكنه أن يعثر على علاقات أخلاقية رومانسية بين الدول والشعوب، وأن نموذج عنترة وعبلة لا يجدي في عالم السياسة. والسوري يليق به أن يبتعد عن هذه الطريقة في التفكير، وهو الذي أصبح مثلا للتضحيات التي قدمها في سبيل أن ينال حريته بنفسه، وليس عبر مساعدة الآخرين التي لم ولن تأتي.