نحو ثورة وطنيّة

2023.01.18 | 06:17 دمشق

  نحو ثورة وطنيّة
+A
حجم الخط
-A

رغم أن مفردة "خطاب" يمكن استخدامها بمعنى: مجموع الألفاظ، كخطبة الجمعة أو خطاب المسؤول؛ إلّا أنّ الفكر الحديث والمعاصر درس الخطاب باعتباره بنية ذهنيّة ونظاماً تكشفه السياقات، ولعلّ دراسة الخطاب بهذا المعنى تكون فرعاً من دراسة المنطق.

درس "جورج دومزيل" نظام الخطاب في الموروث الهندو أوروبي فتوصّل إلى أنّ "السيادة والسلطة إضافة للعمل" تشكّل البنية الذهنيّة للعقل الهندو أوروبي، وإذا راعى انتباهنا  أنّ "السيادة والسلطة" هما محورا الهويّة السياسيّة للإنسان فلعلّنا نهتمّ لخطورة نفي مثل هذا عن مجتمعات أخرى ليست هندو أوروبيّة.

قامت المدنيّة الحديثة على مبادئ أساسيّة: أوّلها أنّ الإنسان حرّ بطبيعته: ما يعني أنّه "سيّد"، وأنّ لإرادته الحرّة مصالح دنيويّة زمنيّة ومن حقّه الدّفاع عنها: ما يشير إلى "سلطته". وجاء الفصل بين السلطتين: "المدنيّة والروحيّة" لصالح تمكين السّيد الإنسان من ممارسة سيادته والدفاع عنها!

خلال النصف الثاني من عام 2022 وحده تغيّر ثلاثة أو أربعة رؤساء حكومة في بريطانيّا دون الالتفات إلى جنس المسؤول، أو أصوله العِرقيّة، أو دينه؛ فالحكومة لا تؤدّي سلطة روحيّة بل مدنيّة، والمسؤول ليس مقدّساً؛ بل موظّفٌ منحه السّيد المواطن تفويضاً للدفاع عن مصالحه.

السيادة والسلطة محورا الهويّة السّياسيّة، والإنسان –كل إنسان- حرّ بطبيعته لذا لن نتفق مع تصوّرات الاستشراق عن قصورنا؛ لكن كيف يمكن تتبع أنماط "السيادة والسلطة والعمل" في بنية الذهن الشرق أوسطي المتخم بالماضي والتّراث؟!

هل يمكننا تصور نمط ثلاثي أيضا من مثل: (الله - النبي - الخليفة)، وظلّ اجتماعي له: (الأب، الأخ الأكبر، أفراد العائلة) وربّما ظل سياسيّ من مثل: (القضيّة، القائد، المناضلون)... إلخ

الأخ أو الأب القائد هو السيّد الوحيد في وطن القضيّة ولا يستمدّ سيادته من سيادة الأفراد بل سيادته عليهم

فصلت العلمانيّة بين السلطتين: "الروحيّة والمدنيّة" كي لا تجمع جهة راغبة بين سمن سلطة وعسل السيادة ما فوق المدنيّة: فتنتج حزباً رائداً وأباً قائداً يعرف مصالح النّاس أكثر منهم!

الأخ أو الأب القائد هو السيّد الوحيد في وطن القضيّة ولا يستمدّ سيادته من سيادة الأفراد بل سيادته عليهم، ولا سلطته من سلطة النّاس بل من تسلّطه عليهم؛ ولا بأس من "نخب" تلعب دور المثقّف الذي يصيغ المعنى التالي: "إنْ انتصرنا فالفضل للقائد وإنْ هُزمنا فمن أنفسنا"!

قلنا إنّ الخطاب نمط تفكير لا علاقة له لا بالمقدّس الحقيقي؛ إذ لا ينطلق منه بل يتّكئ عليه لبناء خطاب السلطة غير المستمدة من سيادة النّاس وغير المعنيّة بتحقيق مصالحهم، وقد درس جدّنا السوري عبد الرحمن الكواكبي مثل هذا في أثناء تناول الآية الكريمة: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ" ليستدل على إمكانيّة إنتاج خطاب استبداد فحواه: أنّ طاعة أولي الأمر موازية لطاعة الله والرسول؛ وأنّ إنتاج خطاب حريّة ممكن أيضاً شريطة عدم إغفال "منكم" في سياق الآية.

إنّ دراسة السّلطة كخطاب يفضح عدم ركون النّخب السّياسيّة السّوريّة إلى كرامة الإنسان السوري بوصفه سيّداً لالتماس السلطة الشرعيّة منه؛ والاستعاضة عن ذلك بتفويض قوى خارجيّة. كما يفضح دور النّخب المثقّفة في إنتاج خطاب الاستبداد!

حتّى في قراءة التراث فإنّ مثقّف السلطة –غير الشّرعيّة- قادر على لعب دور؛ ففي قصّة الخليفة عمر مع رسول كسرى على سبيل المثال: يؤكّد المثقّف السلطوي على أنّ المقولة الجوهريّة من القصّة تدور حول تواضع الخليفة النّائم تحت الشّجرة؛ فيحلم المتلقّي المسكين في أفضل أمنياته المثاليّة بمسؤول يتواضع فيسلّم عليه؛ رغم أن المندهش في قصّة الخليفة النّائم تحت الشجرة لم يكن واحداً من عشرات وربّما مئات الذين شاهدوا الخليفة نائما بتلك الطريقة الاعتياديّة لأمثالهم؛ بل كان المندهش رسول كسرى، وكان أحرى بالمثقّف الجمع بين دهشة رسول كسرى ودهشة السوريين اللاجئين في أوروبا من مشاهدة مسؤول يستقلّ وسائط النّقل العام مثلاً!

قد يظهر خطاب الاستبداد في سلوك المسؤول الذي يتعمّد أنْ يبدو كأن يمشي بين النّاس دون حراسة؛ كما يظهر الخطاب ذاته في التبريرات التي يصيغ بها مثقّف السلطة تواضع المسؤول!

طالما استلب نظام الأسد من السوريين "سيادتهم وسلطتهم" بخطاب سلطة تعرف مصالحهم أكثر منهم؛ في حين ومنذ استحوذت على سلطة تمثيل السوريين نهاية عام 2011 فإنّ المعارضة لم تسعَ إلى أن تُشرعِن سلطتها استناداً إلى سيادة الإنسان السوري؛ بل أظهرت نزوعاً سلطويّاً اكتفى بالاتّكاء على "تفويض دولي" وطالما عرفت به مصلحة السوريين أكثر منهم!

إذا كان الإنسان السوري "غير المؤهّل للسيادة وغير الحائز على حريّة إرادة لها مصالح ومن حقّها الدّفاع عن مصالحها" فلا بأس من الاعتراف بأنّ النظام والمعارضات والدول صاحبة التّفويض جميعهم قد انتصروا فحقّقوا أهدافهم السّياسيّة: إذ انتصرت روسيا وإيران أو "أصدقاء المفيد من الجغرافيا السوريّة".

وانقسمت دول "أصدقاء الشعب السوري" أو "التصوّرات التي يرون بها الشّعب السوري" إلى أخوين كبيرين منتصرين لمصالحهما السّياسيّة:

فانتصرت أميركا لأمنها القومي شرق الفرات، وانتصرت تركيا غرب الفرات، وانقسم الشعب السوري بما يوائم مصالح "الإخوة الأصدقاء"!

كيف لشعبٍ غير معترف باستحقاق هويّته السّياسيّة أنّ يكون شريكاً لأمن قومي يعبّر عن ذروة الإرادة السّياسيّة لشعوبٍ أخرى!

ما يجعل من الثورة السوريّة عام 2011 خطاباً مختلفاً وقابلاً للظهور باستمرار أنّ تعبير الإرادة الحرّة عن مصالحها لا يحتاج إلى تفويض خارجي؛ بل ما إنْ تبدأ النّخبة –غير المؤهّلة لتبنّي حريّة الشّعب السوري- تهتمّ بتنظيم حراك السوريين وربطه بمصالح الأمن القومي لدول أخرى؛ حتّى يعود خطاب الاستبداد يلتمس تفويضاً من خارج سوريا: أرضاً وشعباً!

للإنسان الطبيعي: التركي والفرنسي والأميركي والسوري أن يريد، وكان الإنسان -قبل المدني- يسعى إلى إنفاذ إرادته بيده، حتى أتاحت الدول المدنيّة الليبرالية نماذج إداريّة يتوسّل الإنسان من خلالها إنفاذ إرادته بواسطة انتخاب ممثّل عنه؛ لكنّ الإرادة أصيلة فإنّ تقاعس الممثّل يسعى الإنسان المدني إلى تغييره عبر صندوق الانتخاب؛ أمّا إنّ استبدّ ذلك الممثّل بالسلطة فلا يكون أمام الإنسان من وسيلة غير الثّورة، في حين أنّ الثورة مؤشّر على فشل النظام السياسي لا على فساد الإرادة الحرّة! 

منذ 2011 عبّر الإنسان السوري عن إرادته: "الشّعب يريد إسقاط النّظام" وأسقط النّظام بالفعل في مناطق واسعة من سوريا؛ حتّى وصول الدّعم برفقة معارضة تحمل تفويضاً دوليّاً، وتدّعي الثّورة!

العمل السياسي لا يكون بالهتاف مع المتظاهرين أو بالتقاط الصّور بينهم لتوسّل تفويض بتمثيلهم من دولة مانحة؛ بل بتقديم برامج سياسيّة لإنفاذ إرادة السوريين!

حتّى داعش حين بدأت التّوغل في أوساط الثورة تحدّث بعض أزلامها عن ثوابت الثورة. إلهام أحمد، والجولاني.. وصولاً إلى سالم المسلط وعبد الرحمن مصطفى جميعهم ما إنْ يتحدّثون فإنّهم يتحدّثون عن ثوابت ثورة السوريين؛ فلماذا السوريّون بحاجة حتّى الآن إلى التظاهر للتعبير عن إرادتهم!

لعلّ شعار "لا للمصالحة مع الأسد" ليس عملاً سياسيّاً، بل رغبة يطرحها المتظاهرون للتعبير عن إرادة غير نافذة بعدُ؛ في حين أنّ العمل السياسي لا يكون بالهتاف مع المتظاهرين أو بالتقاط الصّور بينهم لتوسّل تفويض بتمثيلهم من دولة مانحة؛ بل بتقديم برامج سياسيّة لإنفاذ إرادة السوريين!

ولعلّ السوريين –حتى في مناطق سلب إرادتهم بواسطة الأسد- قلقون من اتفاق مصالح الإخوة الكبار، ومن توحيد مناطق نفوذهم وتقسيم السلطة على الشعب السوري بين وكلائهم؛ لا لأنّ السوريين يفضّلون تقسيم بلادهم؛ بل لأنّهم يخشون من عدم قدرتهم على التّكيّف مع كل ذلك الاستبداد المتراكم!