icon
التغطية الحية

ناشيونال إنترست: قتل الإنسان في الباغوز السورية هو القاعدة وليس الاستثناء

2021.11.25 | 18:30 دمشق

syria_17.jpg
غارة شنتها طائرة بدون طيار في سوريا
ناشيونال إنترست- ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

كشف تحقيق استقصائي أجرته صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً عن تعرض مدنيين لأضرار كبيرة في الباغوز بسوريا بسبب الجيش الأميركي، أثناء محاربته لما تبقى من فلول تنظيم الدولة. ويصور هذا التقرير كيف جرت عملية الإفلات من العقاب بصورة ممنهجة وعلى أعلى المستويات في المؤسسات الأمنية الأميركية التي أصبحت معروفة لدى كثيرين ممن يركزون على السلم والنزاع منذ عقود طويلة بيد أنهم باتوا يحتقرونها أيضاً. ولكن بالنسبة للمراقب العادي، تعتبر هذه الحوادث مجرد حالات شاذة فردية وقعت في مكان قصي، وذلك الرأي يصب في مصلحة المسؤولين الأميركيين بالدرجة الأولى. بيد أن الحقيقة المرة هي أن تلك الحوادث أصبحت شائعة في المناطق التي تغزوها الولايات المتحدة، ولابد من تعريفها بمفردات صادقة وصريحة عبر القول: إن القتل الذي تجيزه الدولة هو القاعدة وليس الاستثناء.

إن الطبيعة الغريبة للهجوم على مدينة الباغوز، بالإضافة إلى ردود الفعل الصادرة عن الأفراد والقادة في الحكومة الأميركية تعكس تلك الحقيقة بجلاء. ففي الثامن عشر من شهر آذار عام 2019، أسقطت غارتان جويتان 1500 رطل من المتفجرات على جمع من الناس كان موجوداً على تخوم آخر معسكر لتنظيم الدولة شرقي سوريا، وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز وقتها خبراً عن استخدام 2500 رطل من المواد المتفجرة في تلك الغارة، إلا أن مسؤولين أميركيين قاموا "بتصحيح" تلك المعلومة فيما بعد. لم يذر الدمار وقتها إلا القليل، كما أثار حالة من الصدمة بين صفوف الجنود الأميركيين الذين كانوا يراقبون المعركة التي شنتها طائرة بدون طيار أخذت تحلق فوق رؤوس الجميع.

قتلت تلك الغارة يومها ثمانين شخصاً تقريباً، معظمهم من النساء والأطفال. وكان التقرير الذي نشرته نيويورك تايمز مفصلاً، لدرجة أجبرت القيادة الأميركية الوسطى على الاعتراف بمسؤوليتها عن تلك الحادثة. إلا أن هذا الاعتراف لم يأت إلا بعد سلسلة من محاولات التعتيم على الخبر والتي شملت طمس معالم موقع الغارة، وإخفاء بعض الوثائق، والتخلص من المخبر الذي حاول التوجه إلى الكونغرس وبيده دليل على وقوع تلك العملية الوحشية.

ومنذ ذلك الحين أخذت وزارة الدفاع الأميركية بنشر تصريحات فيها الكثير من التخبط، إذ ذكر لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي في مؤتمر صحفي عقد بتاريخ 17 من تشرين الثاني بأنه: "من حق الشعب الأميركي أن يعرف بأننا نتعامل مع هذه المشكلة بمنتهى الجدية، وبأننا ملتزمون بحماية المدنيين، وبأننا نقوم بذلك حقاً، سواء فيما يتصل بطريقتنا بتنفيذ المهام باسمه، وكيف نتحدث عن ذلك فيما بعد".

وطفق الناطق الرسمي باسم القيادة الأميركية الوسطى، النقيب بيل أوربان، يقول: "هاتان الغارتان مشروعتان للدفاع عن النفس"، وتابع بأنه هنالك شكوك تحيط بالظروف، بسبب "مشاهدة العديد من النساء المسلحات برفقة طفل مسلح واحد على الأقل في الفيديو، لذا فإن هذا الخليط من الأشخاص المسلحين والعزل لا يمكن تمييز من فيه بصورة قطعية. إلا أن غالبية من قتلوا في تلك الغارة كانوا من المقاتلين على الأرجح، كما يرجح بشكل كبير أيضاً وجود مدنيين آخرين قتلوا في هاتين الغارتين". وقد أيد جون كيربي الناطق الرسمي باسم البنتاغون هذه الفكرة، حيث أكد تلك المزاعم بقوله: "لا يوجد جيش في العالم يبذل ما نبذله لتفادي وقوع ضحايا بين صفوف المدنيين".

بيد أن هذه التفاسير ليست غير مقبولة فحسب، بل إنها أيضاً ترفض وتقلل من حجم الظلم والفساد لحالة الإفلات من العقاب التي انتهجتها المؤسسات الأمنية الأميركية خلال الغارة وبعدها بشكل قاطع. إذ إن التبرير الذي قدمه أوربان حول مقتل عشرات المدنيين وتصنيفهم على أن أغلبيتهم من المقاتلين يعكس الطبيعة الحقيقية للتفكير السائد في وزارة الدفاع والجيش الأميركي، والذي يقوم على الفكرة القائلة بأنَّ من يطلق النار بوجه حق أولاً يعفى من العواقب لاحقاً.

والأنكى من ذلك تصريح أوستن الذي يمثل ابتعاداً أشد عن المفاهيم الأساسية للمسؤولية المتمثلة بحماية المدنيين، إذ عندما ذكر أنه من حق الشعب الأميركي أن يعرف الحقيقة وهو يرفض الاعتراف بحقوق وطموحات الشعوب غير الأميركية بوصفها من بني البشر، فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه الإدارة تسير على نهج الإدارات التي سبقتها من حيث إعطاء الأولوية للرؤية الأميركية مع تجاهل واجب الولايات المتحدة المتمثل باحترام القانون الدولي الإنساني والتشريعات والقوانين الأميركية الخاصة بالامتناع عن إيذاء المدنيين والتي حددها قانون تفويض دفاع الأمن القومي في عام 2020.

وبكل تأكيد تبدو إدارة بايدن راضية عن التضحية بالسياسة الخارجية التي يزعمون أنها تركز على حقوق الإنسان لصالح المصالح الجيوسياسية، مع التركيز مجدداً على الشرق الأوسط وجنوبي آسيا. إذ بدلاً من استغلال تلك اللحظة إلى جانب فشل الغارة التي شنتها طائرة بلا طيار في 29 من آب على أفغانستان والتي قتل بسببها عشرة مدنيين أبرياء بينهم أطفال، يواصل فريق بايدن السياسة ذاتها التي سبق له أن انتقدها عندما طبقتها إدارة ترامب. وذلك ليس بمستغرب، مع عودة المسؤولين الذين كانوا على رأس عملهم أيام إدارة أوباما، والذين دفعوا ببرامج الطائرات بدون طيار إلى حالة التأهب القصوى، إلى البيت الأبيض.

وبناء على ذلك تتضح هذه الحقيقة المرة، إذ إن أهم حزبين سياسيين في الولايات المتحدة قد أوكلا السياسة الخارجية القائمة على صفقات بيع أسلحة مشبوهة لشخصيات مستبدة استخدمت تلك الأسلحة وأفلتت من العقاب في حروب غير شرعية داخل عدد من الدول بناء على تفويضات مشكوك بأمرها، مع عرقلة لآليات حقوق الإنسان الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بهدف الحفاظ على هيمنتها على العالم بصورتها المتداعية. ويلخص الوضع في سوريا والعراق ثقافة العسكرة التي لا يردعها رادع بما أن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة تسبب في مقتل ما لا يقل عن 2024 مدنياً.

بيد أن هذه المقاربة ليست دائمة كونها تغذي حالة سخط عميقة داخل الدول التي تعاني من آثار تلك السياسات. ومما يزيد الطين بلة أن تلك العمليات مثل الغارات الجوية التي استهدفت حفل زفاف في أفغانستان أو العنف الذي مورس على مدنيين فقراء في العراق، لم تسهم ولو حتى بقدر بسيط بتحسين مشاعر الآخرين تجاه الولايات المتحدة، بل دفعتهم للعمل ضد الأهداف الأميركية الشاملة، ومن بينها مبيعات الأسلحة لأنظمة تتمتع بسجلات شائنة في مجال حقوق الإنسان في أماكن مثل اليمن، حيث تشير بعض التقارير إلى مقتل ما يربو على 18 ألف مدني أو إصابتهم بجراح بسبب غارات التحالف الذي ترأسته السعودية.

خلاصة القول إنه بوسع إدارة بايدن العمل على خلق تغيير حقيقي داخل المؤسسات الأمنية الأميركية بطريقة تعزز الشفافية والمحاسبة مع ابتعاد الولايات المتحدة عن التحول إلى دولة عسكرية في المقام الأول.

ولكن لسوء الطالع يبدو هذا الأمر بعيداً على المدى القريب لاعتبارات وأولويات داخلية، إلى جانب المصالح الجيوسياسية الأميركية التي تهيمن على تفكير الإدارة الحالية. وهكذا لابد وأن تتجلى تلك الحقيقة القاسية لدى الطرف الذي يتحمل تبعات هذه السياسات كونه سيظل يعاني بسببها.

 

المصدر: ناشيونال إنترست