icon
التغطية الحية

من "قم" إلى عبد الوهاب.. أدونيس وتحولات تطبيع السعودية مع إيران

2023.03.27 | 07:34 دمشق

إيران
أحمد طلب الناصر - تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

لطالما تزامنت حركة الشاعر السوري الموالي لنظام الأسد "أحمد سعيد علي إسبر" الذي منح نفسه لقب الإله الإسطوري (أدونيس)، مع التقارب السياسي المرتبط بإيران والنظام السوري. وزيارته الأخيرة إلى السعودية لا تبدو منفصلة عن اللقاء الأمني الذي جمع علي شمخاني المسؤول الإيراني البارز في "الحرس الثوري الإيراني" برئيس المخابرات السعودية الأسبوع الماضي.

دعوة أدونيس لزيارة السعودية قبل نحو أسبوعين، وهو الذي هاجمها وانتقد نظامها الملكي، معتبراً إياه منبعاً لـ (الإرهاب وتنظيم داعش) في تصريحات عديدة مصورة، بدت كجائزة ترضية تقدمها الأجهزة السعودية ليس لأدباء الحداثة في السعودية بل للنظام الإيراني الذي امتدحه أدونيس من أول لحظة اندلعت فيها ما عرفت بثورة الخميني عبر قصيدته الغنية عن التعريف والمنشورة في صحيفة "السفير" اللبنانية. 

تلك القصيدة، وجّه فيها أدونيس رسالة إلى دول الخليج العربي لتنذرهم بـ "عاصفة من النار"، قادمة من (قُم) معقل "شيعة" إيران، لتبيد دول الخليج كلها، ولتبشّر بولادة "مشرق جديد" سيرسمه الفرس فوق خارطة العالم العربي:

"أفقٌ ثورةٌ والطغاة شتات

كيف أروي لإيران حبّي

والذي في زفيري

والذي في شهيقي تعجز عنه قول الكلمات؟

سأغنّي لقمّ لكي تتحول في صبواتي

نار عصف، تطوّف حول الخليج

وأقول: المدى، والنشيج

أرضي العربية - ها رعدها يتعالى

صاعقاُ خالقاُ

وحريقا

يرسم المشرق الجديد، ويستشرف الطريقا.

شعب إيران يكتب للشرق فاتحة الممكنات

شعب إيران يكتب للغرب:

وجهك يا غرب ينهار

وجهك يا غرب مات

شعب إيران شرق تأصّل في أرضنا، ونبيّ..."

وفي كل مرة يُسأل فيها أدونيس -صاحب كتاب "الثابت والمتحوّل"- عن دوافعه لكتابة هذه القصيدة، يجيب بأنها تتغنى بثورة الشعب الإيراني وليس بنظام الخميني. حسناً، سنقبل تبرير أدونيس ونُحسن النية. ولكن، لماذا لم يكتب حرفاً واحداً في تمجيد ثورة الشعب الإيراني التي ما تزال مندلعة؟ ولماذا لم يكتب قصيدة يؤيّد فيها ثورة الشعب في سوريا، ويعلن تأييده  الحراك الشعبي (على غرار موقفه الداعم لانتفاضة تونس، مثلاً)؟ ولماذا نعت الثوار السوريين بالإرهابيين والمتشددين دينياً رغم أنه مجّد ثورة إيران وأشاد بطابعها الديني، وشدد عليه أيضاً؟!

وبدلاً من ذلك، كتب أدونيس في أواخر أيار 2011 -حين سقط أكثر من ألف قتيل مدني برصاص أجهزة أمن النظام- بأنه لا يتفق مع مظاهرات تخرج من المساجد. وراح يخاطب بشار الأسد بوصفه "رئيساً منتخَباً"، وناشده كي يتدخل لـ "إنقاذ البلد"، ليجعل من مجرم الحرب مخلّصاً وحمامة سلام!

احتفاء حذر بأدونيس "السعيد"

الإعلام الرسمي السعودي وصف ما جرى من تفاعل مع مشاركة أدونيس بأنه "حضور نوعي مكثف" للنخبة السعودية المثقفة في القاعات الواسعة التي ألقى فيها أدونيس محاضرتين وأمسية شعرية في كل من مدن الرياض والطائف وجدّة، هو الأمر الذي يعطي لهذا الحدث أهميةً خاصة.

ولا يخفى على المهتمين والمتابعين لفعالية "عام الشعر العربي 2023" التي أطلقتها وزارة الثقافة السعودية، التعاطي الهادئ للمملكة مع زيارة أدونيس، بما لا يخرجها من طابعها الثقافي، تاركة لتفاعلات نخبها المثقفة مع حضور أدونيس أن تأخذ مداها في لقاءاته مع تلك النخب دون الإسراف في التغطية الإعلامية لهذا الحدث.

ورغم ذلك، كان هناك اهتمام واضح، وقدر كبير من الارتياح غير المعلن لحضور هذا الشاعر إلى عاصمة (الدولة الدينية) التي انتقدها مراراً، وبأشد العبارات في الماضي، واعتبرها بأنها تعيش حالة قطيعة مع العالم.

وبحسب تسجيل مصوّر تداولته حسابات كثيرة على تويتر، عبّر أدونيس عن "سعادته التي لا توصف" لدى وصوله العاصمة السعودية، بالقول: "أنا سعيد جداً لدرجة أنني لا أعرف كيف أصف هذه السعادة".

كما نقلت مواقع إخبارية محلية وعربية عن أدونيس قوله إن "الإرث الأدبي والحضاري للسعودية، يبوِّئُها مرتبةً أولى في الشعر" وأنه يرى في الصحراء "امتداده العربي الموغل، بما تحويه من طاقة هائلة من الإرث والأسرار"، على حد زعمه.

وفي الرياض، تابع أدونيس سردية "تحوّلاته" عبر كلمة قال فيها: "في هذا الأفق أقول إن علاقتي بهذه الأرض الطيبة، الجزيرة العربية، لا تحدّها اللغة أو الشعر، إنما هي علاقة حياتية في مستوى الكينونة، وهي مليئة إلى جانب أخواتها في المنطقة بأسرار حضارية كبرى إنسانية ومعرفية، لم تُكتشف بعد، ومنطقة العلا في القلب من هذه القارة العمودية".

من (قُم) إلى محمد عبد الوهاب!

لا شك بأن أدونيس يمتلك قدرة عجيبة وخارقة في سرعة التحوّل ونوعه وحجمه، ونادراً ما تتوفر هذه القدرة عند غيره من المفكرين والشعراء والكُتاب في مختلف العصور. ولا ننفي بالطبع وجود شعراء أجبرتهم ظروفهم ومصالحهم على التحوّل والتغيّر، إلا أنهم دفعوا حياتهم ثمناً لتبنّيهم تلك التحوّلات ورفضهم العودة إلى ما قبلها أو التراجع عنها، مثال ما حصل مع المتنبي أو بشار بن برد أو امرئ القيس، وغيرهم كثر.

أما أدونيس، الذي غالباً ما يدّعي عبر لقاءاته المتلفزة والمكتوبة بأنه معارض عتيق، و"ثائر" ومقارع للسلطة والأنظمة، بالرغم من زياراته المتكررة لدمشق وسوريا بدون أي عائق أو إزعاج من سلطات النظام أو غيرها، وبالرغم أيضاً من العلاقات الوطيدة التي تجمعه بسفراء النظام في مختلف الدول التي يقصدها؛ فقد وصل مستوى التحولات لديه إلى مراتب متقدّمة، وقليلون الذين يخرجون منها بسلام.

فمن قصيدة مديحه للخميني و(قم)، التي تعبر بصدق عن وعي أدونيس الشعري، وتنطوي على كراهية طائفية ودينية من الآخر. يتحفنا أدونيس بكتاب شاركته في تأليفه زوجته خالدة سعيد، بعنوان "الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب"، وذلك في عام 1983، أي بعد نحو 4 سنوات من قصيدته عن (الثورة الإيرانية)!

عبد الوهاب
غلاف كتاب محمد عبد الوهاب

في هذا الكتاب، يعترف أدونيس بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان مفكراً وإماماً نهضوياً كبيراً! فاختار مجموعات من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ليبرز بها الأثر النهضوي التقدمي الذي خلّفه في حياة العرب المعاصرين.

وقد أنشأ أدونيس مقدّمة طويلة من نحو 12 صفحة لهذه المجموعة المختارة من الأفكار (الوهابية) بدا فيها وكأنه يشايع القوم ولا يختلف معهم في شيء، حتى في مسائل العقيدة.

ومما جاء في تلك المقدمة: "التوحيد هو الأساس الذي تقوم عليه آراء الإمام محمد بن عبد الوهاب، هو البؤرة التي تنطلق منها، والمدار الذي تتحرّك فيه. لذلك كي نفهم النظرة الوهابية إلى الإنسان والعالم، لا بد من أن نفهم، بادئ ذي بدء، نظرتها إلى التوحيد، ونعرف بالتالي ما يقتضيه في منظورها أم ما يوجبه التوحيد.. هو أن نعلم أن الله يتفرّد بصفات الكمال المطلق...".

الكتاب حوى تناقضات عديدة، نختار منها ما أشار إليه الكاتب والسياسي السوري صبحي حديدي في مقالة له بصحيفة "القدس العربي". يقول حديدي: "في الكتاب يقول أدونيس إنّ التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً بل عمودي. وفي المقدّمة يقول إنّ "التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً أو عمودياً، بل دائري! كيف، في غضون زمن قصير قياسي، كان التقدّم الإسلامي عمودياً، فانقلب إلى دائري؟".

إلا أن السؤال الذي يراود الجميع بدون أن يجدوا جواباً له إلى اليوم، هو: كيف يفسّر أدونيس عمله و"إعجابه" بمختارات نصوص إمام الوهابية والاحتفاء بها في كتاب، وهو الذي يعتبر الدين عائقاً امام النهوض، وخاصة الاسلام السلفي؟

هناك من أشار إلى أن أدونيس أنجز هذا الكتاب مقابل مبلغ مالي ضخم، تقاسمه مع زوجته التي شاركته في جمع النصوص وتنسيقها. إلا أن ذلك يبقى مجرد افتراض لعدم وجود أي دليل يثبت ذلك.

آراء الكتّاب والمثقفين في حضور أدونيس

تفاوتت مواقف وآراء مثقفين وكتّاب عرب حول مشاركة "إسبر"، إذ رحّب الكاتب والقاص السعودي عواض شاهر بدعوة أدونيس عبر تغريدة قال فيها: "ها هو أحد أهم وأبرز المثقفين العرب في هذا العصر يكتشف بنفسه على أي قدر بات الحراك الثقافي لدينا أوسع استيعاباً وأعلى مرونة في صنع المشهد اللائق ببلادنا وبثقافتنا العربية وبعدنا التاريخي".

أما الكاتب والصحفي السعودي ميرزا الخويلدي، فقد تساءل في مقالة له الأسبوع الماضي، قائلاً: "ما الذي تغيّر حتى أصبح أدونيس بيننا؟ هل تغيّر أدونيس، أم تغيرنا نحنُ؟". ثم يجيب: "الحقيقة، الجميع تغيّر... أدونيس الذي استعلى كثيراً على عرب الجزيرة، صار يتنقل في مرابعهم، لا بأس... ونحنُ أيضاً تغيرنا، ومن المهم أن نعي أننا في سيرورة وتحول"، على حد تعبيره.

ورأى السياسي والكاتب السوري فايز سارة إنه بقدر ما "قد تكون هناك أشياء تخدم السعودية من هذه الزيارة فالمؤكد أيضاً أن هناك ما رأى أدونيس أنه يخدمه حتى يقوم بها". وأردف: "لا يمكن لمثقف كبير مثل أدونيس أن يكون عميلاً يخدم الأهداف السعودية"، بحسب تصريح أدلى به لشبكة "بي بي سي" البريطانية.

بالمقابل، لم يرَ الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين دلالة ذات قيمة لزيارة أدونيس، قائلاً: "أدونيس مع الوقت واستهلاكه لنفسه أصبح مادة للجدل المستمر لدرجة أنه استطاب ذلك، ويفعل الشيء ونقيضه في نفس الوقت". وبحسب الجبين فإن ما يمارسه أدونيس هو أنه "يذهب إلى المكان الذي هاجمه طيلة حياته في شعره وحواراته وكتبه، ويذهب إلى الثقافة التي يحتقرها، والتي قال عنها إنها لم تقدم سوى العنف والدماء والقتل وجز الرؤوس".

واستعادت مواقع ومنصات إخبارية، من بينها منصات سورية معارضة، انتقادات أدونيس السابقة للسعودية ودول خليجية أخرى اتهمها بدعم (الإرهاب) على خلفية دورها البارز خلال ثورات الشعوب في الربيع العربي، ولمساندتها الثوار السوريين الذين بطشت بهم آلة حرب النظام وحلفائه من الروس وميليشيات إيران.