من فرانكفورت إلى عمّان مروراً باسطنبول

2019.08.07 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كخبر فاجع تلقّى أهالي مدينة فرانكفورت يوم الإثنين في 29-7-2019 نبأ وفاة طفلٍ دهساً على سكّة القطار السريع بعد أن دفعَه وأمَّه شابٌّ إريتيري فجأة وبدون أيّ سبب. لحسن الحظّ فقد نجت الأمّ من الموت وتعافت من الكدمات والجروح، لكنّها ستحتاج بلا ريب فترة طويلة جدّاً للتعافي من هول الصدمة النفسيّة. بعد إلقاء القبض على الجاني تبيّن أنه من حاملي الإقامة الدائمة في سويسرا منذ عام 2006، وقد كان ملاحقاً من قبل الشرطة السويسريّة للاشتباه بارتكابه مخالفات للقانون قبيل دخوله إلى ألمانيا وارتكابه هذا الجرم.

قبل أيام من ذلك أقدم شابٌ سوريٌ على طعن سيدة ألمانية كان يعمل لديها في صالون للحلاقة، وبدون مقدّمات أيضاً. هذه المرّة كان الشاب السوري ممن لجأوا إلى ألمانيا في العام 2015.

في عمّان يوم الخميس بتاريخ 1-8-2019، وإثر مشاجرة بين شباب سوريين وأردنيين توفي شابٌّ أردنيّ إثر تلقيّه طعنة سكّين، ثمّ تطوّر الأمر بعد أن أقدم أقارب القتيل على حرق عدّة متاجر لأشخاص سوريين لا علاقة لهم بالحادث، وتوفي إثر الحريق ثلاثة أشخاص أيضاً.

لم تتضّح بعد أسباب الخلاف ولا دوافعه، لكنّها تندرج ضمن إطار الأعمال الانتقاميّة المعروفة في المجتمعات ذات التشكيل العشائري كالأردن، لكنّها لا تعود إلى دوافع عنصريّة كما تبيّن من نتائج التحقيقات حتى لحظة كتابة هذا المقال على الأقل.  

في اسطنبول قبل شهر ونيّف في 30-6-2019 وإثر إشاعة كاذبة قام عدد من المواطنين الأتراك في منطقة إكيتلي بالاعتداء على محلاّت يملكها سوريّون. بعد التحقيقات الرسميّة تبيّن أنّ حادثة تحرّش شاب سوريّ بفتاة تركيّة - التي كانت السبب وراء هذا الاعتداء - مجرّد شائعة كاذبة أطلقتها بعض الجماعات المتطرّفة بهدف التحريض على اللاجئين السورييّن.

إنّ الهدف من إيراد هذه الحوادث الثلاثة إجراء مقارنة بسيطة وسريعة بين ثلاثة مجتمعات مختلفة استضافت اللاجئين عبر سنوات مديدة من تاريخها المعاصر، وقياس أشكال تعامل مؤسسات الحكم الرسمي ومنظمات المجتمع المدني والصحافة ووسائل الإعلام والناس العاديين مع هذا الأمر.

لقد بدأ الأردن - بعد ربع قرن ونيّف على تأسيسه - باستضافة الفلسطينيّين إثر نكبة عام 48 ثم بعد نكسة عام 67، كذلك استضاف جزءاً من الكويتيّين بعد احتلال بلدهم من قبل الجيش العراقي عام 1990 ثم العراقييّن بعد احتلال أميركا بلدهم عام 3003 ثم السوريين بعد تهجيرهم من قبل نظام الأسد بعد ثورة عام 2011.

استقبلت تركيا أعداداً كبيرة من الهاربين من أوروبا الشرقية خلال فترة الحكم الشيوعي ومن دول البلقان خاصّة بعد الحرب اليوغسلافيّة وموجات من اللاجئين الإيرانييّن بعد الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة عام 1979 ومن الأفغان والعراقيين وأخيراً ملايين من اللاجئين السوريين.

أمّا ألمانيا فإنها تصنّف في المرتبة الثانية عالميّاً بعد الولايات المتحدة الأمريكيّة كمقصد لطالبي الهجرة، ومنذ ستينيّات القرن الماضي انتهجت حكوماتها المتعاقبة سياسة منفتحة بهذا الشأن لأسباب كثيرة لعلّ أهمّها تلبية احتياجاتها من الأيدي العاملة لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب العالميّة الثانية.

كخلفيّة قانونيّة لا بدّ من القول إنّ هذه الدول الثلاث من الدول الأطراف في اتفاقيّة اللاجئين لعام 1959 وبروتوكولها

تفاعلت وسائل الإعلام بمختلف مستوياتها مع حادثة مقتل الطفل والاعتداء على السيدة، وقد أثيرت كما كلّ مرّة مسألة الهجرة واللجوء وسياسات الحكومة تجاهها ومواقف الأحزاب المختلفة منها

الملحق لعام 1967، وهي بكلّ الأحوال – كباقي الدول حتى تلك التي لم توقّع عليهما - مُلزمة بموجب قواعد القانون الدولي العرفي باحترام المبادئ الأساسيّة المتعلّقة باللاجئين، وهذا يُغنينا بالطّبع عن التطرّق لأحكام القوانين الداخلية التي من المفترض أن تكون متوافقة مع القوانين والأعراف الدولية.

لقد تفاعلت وسائل الإعلام بمختلف مستوياتها مع حادثة مقتل الطفل والاعتداء على السيدة، وقد أثيرت كما كلّ مرّة مسألة الهجرة واللجوء وسياسات الحكومة تجاهها ومواقف الأحزاب المختلفة منها، وقد كان جوهر النقاش يعتمد الدراسات والأبحاث الرصينة والإحصائيّات الرسميّة لبناء النتائج وفق مقتضياتها. بكلّ بساطة اعتاد الجمهور الألماني أن يسمع الكلام مقروناً بالأرقام والدراسات.

بالمقابل كان الأفراد ومنظمات المجتمع المدني حاضرين في المشهد أيضاً، وقد تنوّعت أشكال التضامن ما بين الاعتصامات الصامتة وإلقاء الورود وإضاءة الشموع مكان الحادث وبين جمع التبرّعات لمساندة الأمّ المنكوبة وتقديم الدعم النفسي لها ولأسرتها، وكذلك بالنسبة للسيدة التي تعرّضت لجريمة الطعن بالسكين.

أمّا على المستوى الرسمي فقد قرّر وزير الداخليّة الاتحادي أن يضع نظاماً جديداً للمراقبّة الذكيّة على الحدود بين ألمانيا وسويسرا للحدّ من حالات التجوّل والانتقال الحرّ بين البلدين، كما إنّه أعاد طرح فكرة ترحيل اللاجئين ممن يرتكبون جرائم جنائيّة الوصف.

في تركيا نلاحظ حالة من الاحتقان الشعبي تجاه السوريين، ولا شكّ بأنّ استخدام ورقة اللاجئين لم يقتصر على السياسة الرسميّة التي طالما اعتبرت هذا الأمر سلاحاً تستخدمه في تعاملها مع الحكومات الأوروبيّة، بل تعدّى الأمر ذلك ليصبح ورقة تتجاذبها الأحزاب المختلفة في الانتخابات البلديّة والبرلمانية. لا يمكن إنكار تحرّكات بعض المنظمات المدنيّة والأهلية التركية للوقوف بوجه الهجمة الأخيرة التي تستهدف السوريين، لكنّها تبقى عاجزة عن تغيير مجرى الأحداث طالما أنّ السياسة العامة صامتة تجاه هذا الأمر، وفي هذا السياق نورد جزءاً من كلمة ألقتها سيدة تركية يوم 3-8-2019 باسم منظمات مدنيّة مدافعة عن حقوق الإنسان في اسطنبول ضدّ سياسات الحكومة التركية:

"إنّ سياسات الهجرة التي تمّ اعتمادها في السنوات الأخيرة تقوم على مركزيّة الهاجس الأمني وعلى قرارات مزاجيّة وسياسية تختصر المهاجرين إلى مجرّد أرقام يجب وضعها تحت المراقبة، بدلاً من إنشاء بنىً مستدامة وداعمة على أساس حقوق الإنسان. نحن نؤمن بوجوب أن يكون المهاجرون تحت حماية القانون لا أن يكونوا تحت رحمة السياسييّن، يجب وضع حدّ فوريّ لكلّ الإجراءات القمعيّة بحق المهاجرين التي تحدّ من حركتهم أو تخضعهم للتمييز أو تحدّ من حقّهم في الحياة والتنقّل والعمل"

إذا نظرنا إلى وسائل الإعلام التركية، لرأينا تقصيراً واضحاً في تبيان ضحالة الاتهامات التي تطال السوريين دون أدنى مصداقيّة أو أسباب مبرّرة.

لم تسعَ وسائل الإعلام بشكل محترف ومهني لإظهار الحقائق التي تحفّ الوجود السوري في تركيا، من حيث عدم تلقّيهم أيّة إعانات على حساب دافعي الضرائب الأتراك، وتوضيح أنّ العلاج الذي يتلقّونه في المشافي التركية مدفوع وفق المعونة المرسلة من الاتحاد الأوروبي، كذلك هناك تقصير واضح في شرح مستوى الدعم الاقتصادي الذي قدّمه رأس المال السوري في تركيا، وهناك غضّ طرف متعمّد عن استغلال اليد العاملة السوريّة في المصانع والمشاغل التركية وغيرها من القضايا الجوهريّة التي من شأنها أن تعدّل الصورة المغلوطة عن السوريين في نظر أبناء البلد من الأتراك.

إنّ محاولة تصدير الأزمات الداخليّة التركية وإلقاء تبعاتها على الوجود السوري في تركيا أمر لا يقبله منطق ولا عقل، وسيكتشف الأتراك ولو بعد حين أنّهم كانوا مخطئين أشدّ الخطأ عندما سكتوا عن حملات التمييز المجحفة التي يتعرّض لها السوريون في اسطنبول، لأنّ تجاوز القانون بحقّ الغريب يمكن أن يرتّب نهجاً يسمح بتجاوزه بحقّ المواطن.

باختصار لم تكن سياسة الحكومة التركيّة متوافقة مع التزاماتها الدوليّة فيما يتعلّق بملف اللاجئين وأزمة اللجوء السوري، لقد امتنعت عن إعطاء السوريين صفة اللاجئين وفق قواعد القانون الدولي وبالتالي حرمتهم من المراكز القانونيّة المضمونة لهم بموجب ذلك.

يبقى الأردنّ – كبلد مجاور- أفضل من تعامل مع ملف اللجوء السوري من حيث متطلّبات القانون الدولي، وقد يكون السبب الرئيس

إنّ دفاعنا عن السوريّ ليس لأنّه بات معتقلاً وقتيلاً ونازحاً داخل بلده فحسب، وليس لأنّه صار لاجئاً شريداً خارجه فقط، بل لأنه إنسان أولاً وأخيراً

وراء ذلك التجربة الكبيرة لهذا البلد في هذا الشأن من جهة وقلّة الموارد التي تجعله يستنهض همم الجهات المانحة لتغطية احتياجات هذه الأعداد الهائلة من البشر التي تدفّقت عليه خلال فترة قصيرة نسبيّاً. لا ينفي هذا بالطّبع وجود بعض الأخطاء أو التجاوزات في التعامل مع هذا الملفّ وتحت ضغط الهاجس الأمنيّ أيضاً، لكن يُسجّل للأردن شعباً وحكومة أنّه كان وما يزال من أفضل بلدان الجوار التي تعاملت مع اللاجئين السوريّين.

لا أحد ينفي أنّ الأوروبيّين استخدموا ملفّ اللاجئين في صراعاتهم السياسية والانتخابية منها على الأخصّ، لكن ما يميّزهم عن غيرهم أنّهم كانوا يسلكون الطرق القانونيّة لمعالجة هذا الملف من خلال سنّ تشريعات تصدرها البرلمانات ويبقى تنفيذها تحت رقابة القضاء، لا عن طريق قرارات إدارّية تتّخذها البلديّات أو السلطات الأمنيّة دون رقيب أو حسيب ودون وجود ضمانات لعدم التعسّف في استعمال السلطة.

إنّ دفاعنا عن السوريّ ليس لأنّه بات معتقلاً وقتيلاً ونازحاً داخل بلده فحسب، وليس لأنّه صار لاجئاً شريداً خارجه فقط، بل لأنه إنسان أولاً وأخيراً، ولأنّ ما أصابه قد يصيب غيره في أي وقت.

لا يماري أحدٌ في حقّ الدول والمجتمعات بالحفاظ على مصالح شعوبها وحماية أمنها الداخلي والقومي، لكن يجب ألّا يتمّ ذلك على حساب اللاجئين المستضعفين بطبيعتهم، ويجب أن يكون كلّ ذلك في إطار من الإنسانيّة واحترام القوانين والأعراف الدوليّة.

إنّ مبدأ سيادة القانون هو المعيار الذي من خلاله يمكن قياس مدى التمكّن الحضاري في دولة ما، فلا تُقاس الأمور بحجم المطارات ولا طرق المواصلات ولا ارتفاع المباني، وما بين أبراج فرانكفورت وساحات عمّان وجسور البوسفور يبقى السوريّ معلّقاً في الهواء متأرجحاً بين الخوف والأمل ما دام وطنه محتلاً ومحكوماً بالاستبداد.