من حفرة التضامن إلى جسر الرئيس: ضبابٌ كثيفٌ يأوي إليه المجرمون والقتلة

2022.05.09 | 06:47 دمشق

1000x563_cmsv2_b008c593-1f22-5d62-93ca-3d3c3e983bbc-6680390.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا شيءَ جديد! فمنذ ما يزيد على عقدٍ من الزمن اعتاد السوريون أن يناموا على مجزرة ويستفيقوا على أخرى؛ فالعصابة المجرمة الحاكمة قد أصبحت أكثر تمرّسًا في ارتكاب المجازر، عصابة قد اختصّت بهندسة المجازر وإخراجها في أفظع صورة ممكنة، عصابة تستطيع التنقّل بسهولة من دور القاتل إلى دور المنعم المتفضّل الذي يمنّ بعفوه على الآخرين، وينظر بعين العطف إليهم من خلال عفوٍ هزيل أريد له أن يكون بمنزلة الممحاة التي يطمس من خلالها ملامح مجزرة أفلتت بالخطأ من قيوده الصارمة وأحدثت أثرًا وصدىً لم يكن بحسبانه؛ إلّا أنّ هذا العفو قد ضلّ السبيل، وارتدى لبوس المجزرة، ورفع الستار عن كواليس خفيّة لمجازر من نوعٍ آخر؛ مجازر غير مرئيّة لم تلتقطها عدسات أوشكت على الاحتراق لفرط الآلام التي التقطتها وخزّنتها.

هذا النظام المجرم يتلذّذ ببعث الأسى، بتجديد آلام السوريين بين الحين والآخر، فكلّما خبت ذكرى مجزرة قليلًا في ذاكرة السوريين المطبقة على الوجع، يبعث مجازر أخرى من مراقدها، يفتح من خلالها آلاف الجراح التي لن يندمل منها إلّا النزر اليسير، بينما جراح أخرى كثيرة ستبقى مفتوحة تنتظر اللحظة التي سيمنّ بها هذا النظام الموغل في فجوره وإجرامه بخبرٍ صغير يبردّ تلك الجراح، وهذا الديكتاتور الذي يتربّع على عرش الإجرام قد بلغت فيه السفاهة والوقاحة درجةً لا تُطاق، لا يكلّف نفسه عناء التستّر على إجرامه المنفلت من كلّ قيد، يقتل القتيل ويمشي في جنازته، يبيد المدنيين بالكيماوي في دوما ثمّ يأتي في العيد ليصلّي في أحد مساجدها، وكذلك في حمص، واليوم في مسجد قريب من حفرة التضامن، وكأنّه يسخر من السوريين ويمدّ لسانه هازئًا بآلامهم، يفتح جروحهم كلما هدأت قليلًا، ليرشّ الملح عليها، ويقول لهم: "موتوا بغيظكم! فنحن فوق آلامكم قاعدون ولن نبرحها".

عصابة لم ترتوِ من دماء السوريين التي سالت مرارًا، عصابة يتلخّص وجودها واستمرارها بمزيد من دماء السوريين التي أصبحت بمنزلة النسغ الذي يسري في جسدها ولا تستقيم حياة هذا الجسد إلّا بمزيدٍ من الدماء

أراد النظام المجرم أن يهيل التراب على حفرة التضامن ليُخفت أثرها من خلال ما سمّاه "عفوًا"، لكنّه فتح ثغرة في جدران المقتلة السورية الكبرى، ثغرة صغيرة كانت كفيلة بهتك أستار من التعتيم السميكة التي يسدلها على ضحاياه، ثغرة ضيقة وسّعتها حشود السوريين التي تنتظر خبرًا عن حياة أحبّة لهم غيّبوا في زنازين ومعتقلات نظام متوحّش بمجرّد أن فكّروا بحياة لا وجود فيها لهذه العصابة المتحكّمة بأرواح العباد والجاثمة على صدورهم منذ ما يزيد عن نصف قرن، عصابة لم ترتوِ من دماء السوريين التي سالت مرارًا، عصابة يتلخّص وجودها واستمرارها بمزيد من دماء السوريين التي أصبحت بمنزلة النسغ الذي يسري في جسدها ولا تستقيم حياة هذا الجسد إلّا بمزيدٍ من الدماء.

هذي الحشود التي تقتصر على أهالي مدينة دمشق وبعض الوافدين من المحافظات السورية الأخرى في فترة سابقة وحاليّة، لنا أن نتخيّل فيما لو كان بوسع السوريين النازحين في الشمال وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وكذلك الموجودين في الشتات؛ الوصول إلى ذلك المكان والانضمام إلى الحشود، هل ستتّسع شوارع دمشق وساحاتها لهم؟

إنّ هذه الصور كفيلة بإثبات كذب النظام وإعلامه للمرّة الألف على التوالي، النظام الذي لطالما أنكر وجود الآلاف في معتقلاته، وأخفى أسماء كثيرة وحجب معرفة مصيرها، فضلًا عن أولئك الذين قضوا خلال الفترة السابقة ودفنهم بصمت في مقابر جماعية ولم يكشف عن مصيرهم، هذه الصور تثبت مجدّدًا أن ما خفي من إجرام هذه العصابة أكبر بكثير ممّا ظهر منها للعلن، وأنّ هذه العصابة المجرمة قد اعتقلت بلدًا بكامله على مرأى ومسمع من العالم كلّه، هذا ما تقوله صور الآلاف من الأهالي وهم يحتشدون تحت جسر الرئيس المتربّع على سدّة الخراب.

لقد فتح النظام بعفوه هذا نافذة أخرى للعالم ليرى من خلال تلك الجموع المحتشدة أنّه لم يبقَ بيت سوريّ لم تطله يد تلك العصابة المجرمة بالأذى، لم يبقَ بيت سوري لم يتجرّع سمّ إجرامه بالقتل والنفي والتغييب القسريّ، أراد المجرم تبييض صفحته من خلال الآمال الكاذبة التي هي أقصى ما يمكن لعصابة مجرمة أن تجود به على القلوب المكلومة لعوائل سورية فجعها بأفرادٍ منها، أو بفردٍ واحدٍ منها على الأقل.

من حفرة التضامن إلى تحت جسر الرئيس؛ تظهر سوريا أشبه ما تكون بمعتقلٍ كبير، يرزح نصف أبنائه خلف قضبان المعتقلات وفي سجون العصابة الحاكمة وزنازينها السريّة، بينما ينتظر النصف الآخر في الخارج خبرًا عن أولئك الموجودين خلف القضبان، والفئة القليلة المتبقيّة من الطغمة الفاسدة لهذه العصابة الحاكمة ينتمون إلى فئة الجلادين والسجّانين والحارسين لسوريا (المعتقل الكبير).

مواجع السوريين موضوعة دومًا في قدر النظام المجرم، يشعل النيران تحتها أو يطفئها، يضيف التوابل والبهارات، مجزرة من هنا، وأخرى هناك، صور لجثث المعتقلين سرّبتها عدسة "قيصر"، شهادة "حفّار القبور"، صور سابقة مسرّبة لجنودٍ يتسلّون في ركل الجثث ودفعها إلى حفرة وحرقها، الغاية الوحيدة من ذلك كلّه تقليب مواجع السوريين وإيقاظ الراكد من مواجعهم في سبيل حياة لم تعد عند كثيرين سوى استراحة قصيرة بين أشواط طويلة وممتدة للموت الذي بات قدر السوريين أينما ذهبوا.

هذه الحشود تكذب ادعاءاته وإحصاءاته وقوائمه، وتثبت أنّه لم تبق عائلة سورية لم ينكّل هذا النظام المجرم بها، وفي الكواليس المعتمة ما هو أدهى وأمرّ وليست مجزرة التضامن التي ارتكبها فرد من هذه العصابة بحق 41 سوريًّا سوى شاهد صغير على أنّ ما يخفيه النظام من إجرام وما أفلت من العدسات الموثّقة له سوى نقطة صغيرة في بحر إجرامه المترامي الأطراف، ذاك المشهد الذي ينتمي إلى عالم الخيال مجرّد مقطعٍ صغير مسرّب من فيلم طويل لإجرام النظام بدأ منذ العام 2011 مع انطلاق أوّل صرخة طالبت بالحرية، وهذه اللقطة وحدها كفيلة بأن تنبئك عن الحالة السورية التي لطالما كان الواقع فيها متفوّقًا على الخيال، خصوصًا أنّ المتعارف عليه في عالم الجريمة؛ حرص المجرم على طمس جريمته وإخفاء معالمها فلا يقوم بتوثيق تفاصيلها في كلّ مراحلها، فتكون شاهدًا عليه كما هو الحال في هذه المجزرة التي فتحت نفقًا واسعًا في ذاكرة السوريين عن المجازر الفظيعة التي ارتكبها النظام بحقهم طوال السنوات الماضية.

من حفرة التضامن إلى جسر الرئيس؛ ضبابٌ كثيفٌ يلفّ حياة السوريين، ومن تلافيفه ينبعث المجرمون والقتلة وهم يحملون أسلحتهم التي تفنّنت وأدمنت انتزاع حياة السوريين

هذا النظام المجرم الذي لقّن أتباعه وأشياعه هندسة المجازر وفنّ صناعة المواجع وتقليبها، ليس لديه لذّة تعدل لذّة الفرجة على آلام السوريين المارقين ممّن استطاع أن يحيل حياتهم إلى جحيم متواصل، والفرق بين حياة سوري وآخر هو الفرق بين القاع والقمّة والأماكن الممتدة على تلك المسافة الفاصلة بينهما، وهو يتربع على عرش الجحيم والطغمة الخاصة به أمثال (أمجد يوسف) هم الحراس والجلادون وما يتسرّب من مشاهد صغيرة بين الفينة والأخرى مجرد صورة مصغّرة عن الجحيم الذي ألقي في غياهبه السوريون جميعًا.

نعم! لا شيء جديد، فمن حفرة التضامن إلى جسر الرئيس؛ ضبابٌ كثيفٌ يلفّ حياة السوريين، ومن تلافيفه ينبعث المجرمون والقتلة وهم يحملون أسلحتهم التي تفنّنت وأدمنت انتزاع حياة السوريين، من حفرة التضامن إلى جسر الرئيس؛ صورة مصغّرة استطاعت العدسات التقاطها للجحيم الأسدي، وفيها تبدو المقتلة السورية الكبرى أقرب إلى الدراما الموغلة في الوحشيّة والسادية، هكذا أراد النظام المجرم؛ منتج المجازر ومهندسها بحقّ السوريين، وهذا جزءٌ يسيرٌ من المشهد يلتقطه من في الخارج مذهولًا ولا يستطيع تصديقه، أمّا السوريون فيعلمون علم اليقين أنّ ما خفي أدهى وأمرّ وأقلّ بكثير ممّا يظهر للعلن، ففي الحالة السورية لطالما تفوّق الواقع على الخيال وسبقه بأشواط ومراحل كثيرة.