من تونس إلى بيروت الحرية وجه آخر للعروبة

2019.10.23 | 17:11 دمشق

alrby-alrby-800x400-1-750x400.jpg
+A
حجم الخط
-A

طوال القرن الماضي، ارتبطت المشاعر القومية بمحاربة الاستعمار التقليدي الذي احتل معظم البلاد العربية لفترات طويلة تجاوزت المئة عام (الجزائر)، وكانت تلك المشاعر أساساً لتأسيس بعض الأحزاب التي حكمت لفترة طويلة (البعث والناصري)، وجلبت ما جلبت من ويلات تصل إلى حد الكوارث على شعوب المنطقة بأكملها، كما كانت تلك المشاعر والأفكار ملهماً لجماهير اكتسحت الشوارع العربية خلف قيادةٍ جعلت الخطاب القومي معياراً وحيداً (عبد الناصر) في معركة التحرر من الاستعمار والتنمية.

أما اليوم، مع بدايات الربيع العربي الذي أشعل شرارته شاب تونسي من المهمشين (وهم الغالبية بين الشباب) وانتقلت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين،

هل توحي التحركات في البلدان العربية المذكورة، وما يمكن أن يتبعها من انتفاضات في بلدان أخرى، بالتماس مفهوم جديد للعروبة يرتبط بالديمقراطية والتحرر؟

وبعد سنوات من الانطلاقة الأولى آواخر عام 2010 وبدايات 2011، يتجدد ذلك الربيع مع الجزائريين الذي غمروا الشوارع بمئات الألوف، والسودانيين الذين استطاعوا الخلاص من حكم البشير، وأخيراً، العراق، وهذه الأيام في بيروت الأسيرة...

والسؤال المطروح اليوم: هل توحي التحركات في البلدان العربية المذكورة، وما يمكن أن يتبعها من انتفاضات في بلدان أخرى، بالتماس مفهوم جديد للعروبة يرتبط بالديمقراطية والتحرر، ويكنس خطابها التقليدي السابق وما علق به من ارتباط مع الاستبداد والقمع الذي ساد على مدى عقود؟ أم أن الصعود الجديد للحركات الجهادية والإيديولوجيات العابرة للحدود ذات المنحى الطائفي أو العابر للحدود سيدمّر مثل تلك العلاقة؟

مثّلت وفاة عبد الناصر في أيلول 1970، نهاية للخطاب القومي التقليدي المناهض للاستعمار، والمعادي لمفهوم حرية الفرد وللحريات الأساسية عموماً، ذلك الخطاب الذي وضع على طرفي نقيض حرية البشر مع تحرر البلاد، تماشياً مع موجة سائدة عنوانها محاربة الاستعمار والإمبريالية، ومسخ الأفراد ضمن الجماعة. إضافة إلى الهزيمة الشنيعة لهذا الخطاب وقادته أمام جوهر مشروعهما (التحرر)، والفشل الذريع أمام إسرائيل التي احتلت المزيد من الأراضي العربية (مصر وسوريا والأردن وفلسطين)، كل هذا مهد الطريق لبروز الدولة القُطرية (وبالمناسبة الجميع ضد مفهوم الدولة وعملها)، بمعنى العمل لحل المشكلات الخاصة بكل بلد من دون الاهتمام بمشكلات بلد آخر، وخاصة في موضوع احتلالها، وهو الأمر الذي جسده الرئيس السادات مع رحلة سلامه الزائف، واسترجاعه عبر مفاوضات مكوكية الأراضي المصرية، وفق شروط مذلة أهمّها عزل مصر عن أي حرب عربية محتملة مع إسرائيل.

مهّد هذا النهج الجديد (القُطري) الذي جاء كنقيض للخطاب القومي التقليدي، وفشله في تحقيق ما ادّعاه من تحرر وتنمية، لظهور الإسلام السياسي الذي أخذ على عاتقه شغل الدور الذي فشل فيه الخطاب القومي من عملية تحرير للأمة وتنميتها من جهة، وتحدي خطاب الاستبداد للأنظمة القومية والقطرية من جهة أخرى. ومن المحفزات الرئيسية لهذا الخطاب، عدا فشل أنظمة الخطاب القومي، انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، كنموذج جديد تتصدره التيارات الإسلامية (سنية كانت أم شيعية) ونجاحها في خلع أقوى الأنظمة العميلة للغرب.

أدى الزخم الذي اكتسبته الثورة الإيرانية إلى إلهام التيار الإسلامي في البلدان العربية نحو التحرك ضد الأنظمة "القطرية"، فكان التمرّد وحركة الاحتجاج السورية، التي حاول التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون والطليعة المقاتلة) ونجح في إفشاله نتيجة لتصوره الإقصائي الاستبدادي، وفي مصر، كان اغتيال أنور السادات في تشرين الأول 1981 على يد أحد أفراد التيار الإسلامي الجهادي، ومن جهة أخرى. ونتيجة للفراغ والانسحاب الكاملين للأنظمة "القطرية" من الاهتمام بالقضايا القومية وأهمها فلسطين، والتراجع الهائل أمام عربدة إسرائيل واجتياحها لبيروت عام 1982، لاستكمال المشروع المشترك -الأسدي الإسرائيلي- في طرد المقاومة الفلسطينية، صار من المبرر لإيران، ولاحقاً لغيرها من الدول الإقليمية التفكير في شغل ذلك الفراغ.

برزت التيارات الإسلامية السنية والشيعية كظاهرة أمر واقع، وأهمها في لبنان حزب الله، كظاهرة جديدة ناتجة عن دور خارجي لدولة إقليمية في شؤون المنطقة، مرتبطة بشكل مباشر بمصالح وولاءات الدولة الأم، تلاها تأسيس تيارات إسلامية في فلسطين على علاقة قوية تصل إلى حد التبعية لإيران وأهمّها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 1987، كطرف مناقض لحركة التحرر الوطني (فتح)، وحركة الجهاد الإسلامي في العام نفسه، بزعامة فتحي الشقاقي صاحب كتاب: (الخميني... الحل الإسلامي والبديل) عام 1979.

كانت آخر الضربات التي تلقاها التيار القومي التقليدي، هي الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وكان إعدام زعيمه صدام حسين عام 2006، الشرارة التي أطلقت عمل التنظيمات الجهادية وسط حالة اليأس من الوضع العربي وانعدام أي أفق للتنمية، ناهيك عن دور إيران الطائفي في المنطقة، والصدوع القائمة بين السنة والشيعة التي تغذيها السعودية وإيران، والممارسات الطائفية الفجة لنظامي سوريا والعراق، مما فتح الأفق على مرحلة كارثية في مسار البلاد العربية: تبعية وقمع وبطالة وتهميش لغالبية السكان.

كل هذا مهّد لانطلاقة شرارة الربيع العربي التي أشعلها البوعزيزي "بائع الخضار" في تونس، كنموذج عن الشباب المهمش والمذلول، هذه الشرارة التي سرعان ما انتقلت إلى بلاد عربية أخرى تعيش بدرجات مختلفة نفس الظروف، في إشارة إلى مشاعر وروابط بين شعوب هذه المنطقة، روابط من نوع جديد، أساسها الفرد والحرية والكرامة، والمساواة مع الجميع، على عكس ما ساد خلال عقود سابقة، حيث ارتبطت "القومية العربية" بالقمع والاضطهاد. واجهت هذه المشاعر والتوجهات الجديدة خصوماً كثيرين، أولها الأنظمة العربية التقليدية في محاولة لكسرها، وتحالف أنظمة السعودية مع بن زايد والجزائر وغيرهم لدعم الأنظمة المستبدة وقمع الشعوب مثال واضح، وثانيها، خطاب "المكونات" البريمري [نسبة إلى بول بريمر حاكم العراق

يرفع السوريون أعلام المصريين، ويرفع الجزائريون والمصريون والعراقيون واللبنانيون أعلام الثورة السورية

العسكري بعد احتلاله عام 2003] الذي ينزع الجدار الذي تستند إليه هذه الشعوب -هويتها العربية الإسلامية- الذي يقسم سكان المنطقة إلى أكراد وأشوريين وتركمان وشركس وأرمن و(سنة وشيعة) في إشارة إلى العرب، وآخرها وأخطرها الخطاب الطائفي للتنظيمات الإسلامية السنية والشيعية.

إن ما نشهده اليوم من تضامن بين شعوب المنطقة في الثورات ضد طغاتها، حيث يرفع السوريون أعلام المصريين، ويرفع الجزائريون والمصريون والعراقيون واللبنانيون أعلام الثورة السورية، وما التأييد العارم من السوريين للمظاهرات في العراق ضد الوضع الذي خلفه الدستور "البريمري" من هيمنة إيرانية على مقدرات البلد، رغم أنها انطلقت من مدن "شيعية"، ورغم حالة الاحتقان التي سببتها إيران تجاه الشيعة في سوريا، وكذلك تجاه ما يجري في لبنان الأسير بيد حزب الله -إيران، إلا أنه دليل على رابطة جديدة عربية ديمقراطية، تقر بحقوق الجميع وتسعى لإقامة دولتهم، دولة الأمة الحديثة، رغم كل المعيقات، التي ستهيئ الظروف للخلاص من التنظيمات الجهادية ذات الخطاب الطائفي، ومن قبلها طائفية النظم الحاكمة.