من اللطم إلى الفعل.. هل يفعلها السوريون؟

2019.10.06 | 03:07 دمشق

1-1281120.jpg
+A
حجم الخط
-A

تسابق السوريون للتنديد باللجنة الدستورية التي أعلن عن تشكيلها الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريس"، وأصبح الحديث عنها ومناقشة تفاصيلها، وأسماء من فيها، وآفاقها... شغل السوريين الشاغل، مع أن الاقتراح الروسي -بشأن كتابة دستور جديد لسوريا- قد قدم في الجولة الثالثة من جولات "أستانا"؛ أي منذ ما يزيد عن سنتين ونصف السنة.

وعلى هذا، كأننا -نحن السوريين- نعشق الدهشة؛ فنغمض أعيننا عن وقائع وتحضيرات تتوالى، على الرغم من أننا نراها، ونسمع بها كل يوم، ونتجاهل كل المؤشرات التي تدل على اقتراب حدوث ما نتجاهله، ثم لا ننتبه إلا بعد أن يقع الفأس في الرأس... فنندهش، ونستغرب، ونصرخ، ثم نبدأ باللطم.

منذ الأيام الأولى للثورة السورية، برز السؤال بالغ الأهمية: ماذا بعد انتصار هذه الثورة؟ وما شكل سوريا الجديدة؟ وقد واجه معظم السوريين السؤال مباشرة بصيغة: "ماهو البديل"؟. وعلى الرغم من تواطؤ السؤال، فإن الإجابة عنه واجبة. وإذا الإجابة الواجبة لم تكن ممكنة في الفترة الأولى، فما مبرر غيابها بعد ثماني سنوات؟

ما أفرزته الثورة السورية من قيادات، قد كان طري العود والخبرة، إضافة إلى أن تحول المستحيل والبعيد إلى ممكن وقريب، قد أطار صواب الجميع؛ فركبت النوايا الخبيثة على النوايا الطيبة وقادتها، ثم بلعتها، ورمتها

هنا والآن، لا بد من الاعتراف، بأن ما أفرزته الثورة السورية من قيادات، قد كان طري العود والخبرة، إضافة إلى أن تحول المستحيل والبعيد إلى ممكن وقريب، قد أطار صواب الجميع؛ فركبت النوايا الخبيثة على النوايا الطيبة وقادتها، ثم بلعتها، ورمتها. هذا لأن الخبيث قد كان جاهزاً ومسلحاً بدعم أجهزة وسلطات بإمكاناتها وخططها، وهو من كان يراقب الحدث من خارجه، فرصد نقاط ضعفه وقوته، فأضعف القوي وحاصره، وركب الضعيف واستخدمه، هذا الذي حصل بتعزيز متبادل مع سلطة فريدة باستبدادها وفسادها، ومع نظام عالمي مأزوم، لم تتوافر شروط خروجه من أزمته بعد.  

لهذا كان المسار محبطاً، والنتائج مخيبة للآمال، بمشاركة، وبتواطؤ، وبقلة انتباه، وبقلة دراية، من قيادات قليلة الفعل في الميديا، ولا فعل لها في الميدان مطلقاً؛ لذلك فقد زرعت فشلاً، وحصدت فشلاً، وانحسرت مآثرها إلى كسب شخصي: مادي، ونفسي.

وعليه، لا بد من الاعتراف أيضاً، بأن الخيبة والفشل الصريح، لم يقتصر على هكذا قيادات افتراضية وسلطوية في عالم سلطوي، بل طال نخباً ثقافية وسياسية سورية، بغض النظر عن تصنيفها. فهل هناك أبلغ من الحال التي وصل إليه الشعب السوري، والدولة السورية،  كدليل على هذا الفشل الذريع؟

ولكي لا أكون من محبي نصف الكأس الفارغ، فإن ثمة ما يدعو إلى القول: إن آفاقاً جديدة تفتح أمام السوريين، وإن تفويتها تفويتٌ لتضحيات الشعب السوري الهائلة، الأمر الذي سيكون كارثة فعلاً. وبالتالي: إذا كان الاستمرار بالعزف على مقامات اللطم والانتظار، لن ينتج أي فعل حقيقي، وسيقود -بلا أي شك- إلى دهشة البلاهة الدائمة، وإلى لطم الأبد إلى الأبد، فإن الصحوة لا بد منها، وإلا ضاع الوطن ضياعاً أخيراً.

لم تعرف سوريا في تاريخها الحديث لحظة، تحفل بمثل هذه الممكنات لإنتاج دولة جديدة معاصرة قابلة للتطور والاستمرار، لكنها للأسف لحظة بالغة التعقيد، تحتاج إلى جرأة عالية، وإلى قدرة راكزة في تحمل المسؤولية، وتحتاج أولاً وأساساً إلى الاشتغال على أدوات جديدة، وعلى فهم ديناميكي يخلع عن كتفيه ثقل أيديولوجيا الدين- وكل أيديولوجيا- وكل أوجه العصبيات القاتلة.

الحقيقة الأهم في سوريا اليوم، هي موت النظام السابق في سوريا، موته بكل معنى الكلمة

وبعد، وبعيداً عن الدجل الإعلامي، فإن الحقيقة الأهم في سوريا اليوم، هي موت النظام السابق في سوريا، موته بكل معنى الكلمة؛ فهذا النظام الذي فقد مركزيته الشديدة، وأصبح طرفاً ضعيفاً من مجموعة أطراف، هي أكثر قوة وفاعلية منه، لن يكون قادراً على الاستمرار، لا سيما أنه يحمل على كتفيه وزر خمسين عاماً من الجرائم والقتل والتعذيب والنهب والفساد، وأن ما يطفو على السطح من تماسكه، ماهو إلا انعكاس لضبابية المرحلة القادمة والتباس معالمها، هذه المعالم التي ستكون أولى تجلياتها، هي: إعلان موت هذا النظام.

لقد فقد هذا النظام خلال السنوات الثمانية الماضية كل ركائزه التي قامت على جملة شعارات كاذبة ومخادعة، فلم يعد السوريون يصدقون كذبة المقاومة والممانعة، ولا كذبة الحنكة السياسية، ولا كذبة البطانة الفاسدة للرئيس الشريف… لقد تهاوى هذا كله على مرأى من السوريين جميعاً، وقد يكون مشهد تهاويه عند الحاضنة الموالية أشد وضوحاً، وملموساً أكثر. وفوق كل هذا، فقد طويت المرحلة التي كان فيها هذا النظام يخفي جرائمه وهويته، لقد تلطخ وجهه بمئات الجرائم والمجازر الموثقة والمعترف بها في عدة محافل دولية، لقد أحسن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” الوصف حين قال: إن نظام الأسد عبارة عن وكر لصوص، وقد بدؤوا ينهشون بعضهم بعضاً.

من جهة أخرى، لم يعد السوريون يصدقون ذوي اللحى والعمائم، وانكشفت وظيفة ودور من تلفعوا برداء الإسلام الذي لم يكن- بالنسبة إليهم- إلا مطية لهوسهم بالسلطة، ومن أجل هذا الهوس أصبحوا مطية لكل من هب ودب، لقد تلمس السوريون باليد ورأوا بالعين حجم الأذى الذي ألحقه بهم هؤلاء، ومدى تبعيتهم وارتباطهم بالخارج. 

وأيضاً، لم يعد السوريون أسرى وهم الخارج، ولا أسرى شعارات الإنسانيات الافتراضية، وقيمها المجردة. لقد منحتهم هذه السنوات الثمانية ما يكفي من الوعي؛ لكي يميزوا بين ما هو حقيقي وما هو زائف، وفهموا لعبة نهب الشعوب باسم القيم والحقوق. 

وعلى هذا، يمكن القول: إن الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون - وما يزالون - خلال هذه السنوات، وإن الظروف البالغة القسوة التي يعيشها السوريون في مناطق وجودهم كلها: في الداخل، وفي الخارج، وفي المخيمات، وفي الشتات، وتحت سيطرة هذه العصابة أو تلك. لا بد أن تكون بوابة قيامة سوريا جديدة، قيامة توحد السوريين حول إنقاذ وطنهم ومستقبلهم. فهل يفعلها السوريون؟

هل يستعيد السوريون صحوتهم الأولى التي أعلنت عن نفسها  في آذار 2011، فيمسكون من جديد بقرار مصيرهم ومستقبلهم رغماً عن كل من يحاول سلبهم إياه

هل يستعيد السوريون صحوتهم الأولى التي أعلنت عن نفسها  في آذار 2011، فيمسكون من جديد بقرار مصيرهم ومستقبلهم رغماً عن كل من يحاول سلبهم إياه، لكن هذه المرة: بتبصر، وبرؤية جديدة، رؤية لا تجامل الماضي، ولا تهادن الزائف، رؤية تستخلص -بكل مسؤولية- نتائج ثماني سنوات من الدم والقتل والتهجير.

كل السوريين الآن يقفون في حضرة السؤال الأهم: وماذا بعد؟ وكلهم يريد الخلاص، فمن سينبري للجواب عن هذا السؤال؟

لا جواب من محتل، ولا جواب من قاتل، ولا جواب إلا من سوريين. سوريون قادرون على قراءة الوجع السوري، وقراءة دروس ثماني سنوات من المأساة، وقادرون قبل كل هذا على القبض على جمر سوريتهم، مهما يكن هذا الجمر حارقاً.