من الذاكرة، درعا أمّ البدايات!

2019.03.20 | 12:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة، أمّ البدايات وربّما أمّ النهايات"، ذاكرة تصنعنا ولا نصنعها، حلمٌ يحاول الهرب من بين ضلوعنا إلى قفصٍ آخر أقلّ اضطراباً.

كان يوماً معتاداً من أيام الربيع، بل كان أقرب إلى الرتابة لولا أن شاهد الصديقان حوّامات سوداء في السماء لأوّل مرّة بهذا الشكل الغريب، بسرعة أحصياها وكانت ثمانية، ما الخطب؟ ماذا يجري؟

كانا في جولة بسيطة على أطراف المدينة يتخيّلان ما يمكن أن ينتج عن تلك الهبّة السريعة لنار البوعزيزي في قلبيهما قبل ثيابه، وكيف كانت زيارتهما الأسبوع الفائت إلى ساحات دمشق لمقارنتها بميدان التحرير وما يصلح منها للمليونيّة القادمة إن تحقّقت الأمنيات.

لم يكّذبا خبراً وبسرعة استدارا باتجاه مركز المدينة علّهما يجدان ضالّتهما في الوصول إلى رأس النبع وهكذا كان، حرائق مشتعلة وأصوات هادرة آتية من الجنوب من جهة البلد.

يستذكران الآن خلال أحاديثهما المتقطّعة بين شهر وآخر أين كانت توقّعاتهما صائبة وأين كانت خائبة، أين حالفهما الحظّ وأين تعثّرت خطواتهما وكبت جيادهما.

قبل كلّ هذه الأحداث المتسارعة كان كاتب هذه السطور قد راجع فرع الأمن السياسي بناءً على استدعاء مهذّب قابلَ إثره نائب رئيس الفرع، ودار الحوار بكل الشكّ بين طرفيه عن مآلات الأحداث الجارية في المنطقة، من تونس إلى مصر مروراً بليبيا واليمن. كانت أجهزة أمن النظام تتحسّب على ما يبدو لحالة مشابهة لما حصل في دول الجوار أو لتحرّكات ما، وقد بادرت تلك الأجهزة إلى استدعاء كلّ من كانت عليه إشاراتٌ أو تحت اسمه خطوط ما تدلّ على إمكانيّة مشاركته أو قيامه بأدوار قياديّة أو تحريضيّة على الأقل في المستقبل.

جميع المصنّفين لدى المخابرات معارضين أو غير موالين لهم صلاتٌ بينيّة بشكل أو بآخر

كان أغلب الذين تمّ استدعاؤهم يعرفون بعضهم بعضاً، فجميع المصنّفين لدى المخابرات معارضين أو غير موالين لهم صلاتٌ بينيّة بشكل أو بآخر. لقد كانت الأحاديث بينهم وبين ضبّاط المخابرات متشابهة إلى حدّ بعيد، فالأسئلة كانت بمثابة استطلاعات للرأي وجسّ للنبض عند الناس، ومن جهة ثانية كانت رسائل تهديد واضحة للجميع بأنّهم تحت المجهر.

كان العديد من المحامين والمهندسين والأطباء وغيرهم من الشابّات والشباب يحاولون التجمهر والتجمّع في الساحة المقابلة للقصر العدلي بدرعا، وكانت محاولاتهم تبوء بالفشل بسبب كثافة الانتشار الأمني الذي كانوا يرونه بأعينهم.

مرّات عديدة فشلوا بالتجمهر، إلى أن أتى اليوم الموعود في 18-3-2011 بعد صلاة الجمعة، فمن مسجد الحمزة والعبّاس في درعا البلد انطلق المصلّون بعد انتهاء الصلاة باتجّاه المسجد العمري حيث لا تزيد المسافة عن الخمسمئة متر، والتقوا هناك ببقيّة المصلّين.

يا له من مشهد رهيب، كان الناس يهتفون بكلمات غريبة لم يعهدوها من قبل، بل كادت تنساها العقول والحناجر!

حرّيّة حرّية ... يا الله كم كان المشهد مهيباً وصاخباً، غريباً وحماسيّاً، مرعباً ومشجّعاً بنفس الوقت! لقد كان الناس يشعرون بأنفسهم في تلك اللحظات كمن يطير في الهواء بلا جنحين، بمجرّد الصراخ والهتاف، بمجرّد المسير في الشارع العام مجموعات غير مسوقة بعصى السجان ولا بمراسم السلطان، بل ضدّهما بكلّ وضوح وجرأة.

كثير من التفاصيل تغيب وتُمحى من الذاكرة بسبب الكم الهائل من الصور والأحداث، فما مرّ خلال هذه السنوات الثمانية شيء يفوق الخيال، بل إنّ الكثير من السوريين الذين تربط بينهم صداقة أو معرفة تراودهم نفس الخواطر بأنّ ما حصل ليس أكثر من كابوس أو حلم مزعج طويل لكنه سينقضي عندما يصحون من نومهم!

بعد التقاء الجموع في الشارع العام بدأت الأصوات تعلو أكثر فأكثر وبدأت الشجاعة تدبّ في قلوب الخائفين والمترددّين وبدأت المظاهرات تكبر والناس تلتحق بها من كلّ حدب وصوب، وما هي إلّا ساعات حتى بدأ الناس يتوافدون إلى ساحة المسجد العمري من أربع أنحاء المدينة ومن بعض القرى القريبة التي سمع أهلها بما حصل.

بعد مشاهد الدمار التي تنقلها شاشات التلفاز الآن، وبعد أن باتت سهول سوريا الواسعة ومدنها الجميلة مقطّعة الأوصال بفعل قوّات الجيش العربي السوري الباسل الذي عاد على جنحان القوى الفضائية الروسية وحراب الميليشيات الطائفية وأموال بعض دول الخليج وبإرادة الأمريكيين والإسرائيليين، يتساءل المرء عن جدوى كل ذلك، وهل كان الناس سيقدمون على هذا الفعل الخارق للطبيعة لو عرفوا أن ثمن الحريّة سيكون بهذا الحجم من التضحيات وبهذا القدر من ألم المخاض العسير الذي لم ينتج عنه سوى الدمار والتشرّد وعودة الديكتاتور منتصراً على بقايا السوريين وعلى حطام سوريّتهم؟

ما كان ليخطر على بال أيّ ممن شارك في مظاهرات ذلك اليوم أنّ الأمور ستنتقل إلى هذا المستوى المهول من العنف، وما كان ليدرك أحدٌ منهم - رغم الإحساس العميق والخوف الكبير من ذلك – أن العالم سيصمت بل سيشارك في هذا الهولوكوست السوري، وما كان ليخطر على بال أي كان أنّ الوريث الأهبل قادرٌ على اللعب على جميع الأوتار ومصالح دول المنطقة والدول الكبرى لضمان استمراره في الحكم دون أن يكون قادراً على التنازل قيد أنملة لمن يحكمهم بالوراثة عن أبيه دون أدنى استحقاق!

لم تكن مطالب المتظاهرين في ذلك اليوم محدّدة، بل مجرّد تعبير عن مكنونات الصدر الحبيسة منذ عقود

لم تكن مطالب المتظاهرين في ذلك اليوم محدّدة، بل مجرّد تعبير عن مكنونات الصدر الحبيسة منذ عقود. لم تكن صرخات حناجرهم لأجل استعادة الأطفال المعتقلين فحسب، ولا لمجرّد الوقوف بوجه جلاوزة النظام الذين استباحوا كل المحظورات وداسوا كل القيم والأعراف، بل كانت لاستعادة أصواتهم ذاتها التي غيّبتها سنوات القهر والاستعباد، لاستعادة حيواتهم ذاتها التي سلبتهم إياها مشيئة السفّاح وسياط الجلّاد.

خارت قوى عناصر الأمن وقوّات حفظ النظام وقوّات مكافحة الإرهاب التي استدعاها على عجلٍ وجاءت بالحوّامات، لكن قوى الصبايا والشباب المتقدين حماسة وعنفواناً لم تخُرْ، وبقيت شعلتهم تلك الليلة متّقدة في ساحة المسجد العمري. كان اليوم الأوّل مفجعاً بسقوط أوّل شهيدين في الثورة محمود الجوابره وحسام عياش، ولم تتوقف فجيعة الأمّهات السوريّات منذ ذلك اليوم وحتى اللحظة.

انقسم الناس فرقاً ومللاً، بين من يروي التفاصيل وبين من يخطّط ليوم غدٍ، بين من يحضّر الأكفان للشهيدين وبين من يشحذ الهمم للمضيّ قُدماً فيما بدأ اليوم في غفلة من عين الرقيب، بين من يهدّئ الحماسة من كبار السن ومن يوقدها من الشباب، بين الخائفين من المجهول والمقتحمين عباب هذا اللجّ العميق من المتعة والخوف والفرح والحزن والغبطة والألم.

كان يوماً لا مثيل له، عيونٌ مغرورقة بالدمع حزناً وأخرى متّقدة بالحماسة فرحاً وغيرها متوهّجة كالجّمر غضباً، هذا ما كان يشاهده الصديقان في تجوالهما بين الجموع المحتشدة وتنقّلهما عبر منصات الخطابة التي نُصبت في ذلك اليوم على عجل مستندة إلى جدار الجامع الحجري مطلّة على بقايا مدرّج روماني وآثار أقدم تجاوره عمرها آلاف السنين.

وفي طريق العودة من البلد إلى أحياء المحطّة حيث يسكنان لم يتوقّف قلباهما عن الخفقان كطائرين ذبيحين لا يعرفان ما يخبّئ لهما الغد المنتظر، لكنّهما بلا أي تردّد حسما أمريهما وحضّرا كلّ ما يلزم لتسجيل الأحداث في ذاكرة آلات التصوير وأجهزة الهاتف الجوال وتاريخٍ سيمتلئ كلّ يوم بملايين الصور والمشاهد المتعاقبة.

مع خلاصة هذا اليوم، يكون قدّ مرّ على هذه الأحداث ثمانيةُ أعوام، ومن قداسة هذا الدم المهراق خطّ "الصاعدون إلى حتفهم باسمين" صحائف جديدة في تاريخ سوريا والمنطقة، ورغم كلّ الخراب والدمار وتكالب "الأصدقاء" قبل الأعداء، مازالت هذه الصحائف تُكتب، وستبقى كذلك، لأنها باتت حجر الأساس لأبجديّة الشعوب التوّاقة إلى الكرامة والحريّة، وقبل أيام فقط عاد لتلك الساحة وهجُها، وتزيّنت حجارة العُمري بظلال شبابها، وصدحت كأوّل يوم حناجر من بقي من ثوّارها بهتافات اليوم الأقدس قبل ثمانٍ طوال، وها هي تجوب البلدان ليخطّ أخوةٌ لنا في الجزائر والسودان معنا بقيّة الحكاية. نعم، نحن من رفع شعلة البوعزيزي عالية وما زلنا، ونعلنها - نحن السوريّين الواقفين على خطوط الثورة- ملء الحناجر والأفئدة: لم نُهزم، ولن نُهزم، وستبقى جذوة الثورة فينا إلى أن نُنجز الكرامة والحريّة لكلّ السوريّين، حتّى من خاف منهم وتولّى.