من أنجبَ الثورة السورية؟

2022.06.14 | 07:02 دمشق

whatsapp-image-2020-03-12-at-15.22.36-750x500.jpeg
+A
حجم الخط
-A

استضافت الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية يوم السادس من حزيران الحالي لقاء جمع عددا من الضيوف لمناقشة طرح للباحث: "مضر الدبس" يدور حول مسؤوليّة المعارضة في مآلات الثورة السوريّة..

من بين المتحاورين كان السيد: "جورج صبرة" حيث أكّد على الخلل الذي بات في 2022 أكثر سطوعاً من الشمس ذاتها. إلا أنه أضاف: بأن علّة الخلل لا تتحمّله قوى المعارضة التقليدية وحدها. بل إن العلّة سرعان ما انتقلت إلى مؤسّسات ناشئة عن الثورة كانت قد منحت المعارضة، ممثلة بالمجلس الوطني ثم الائتلاف، مشروعية تمثيل الثورة..!

ربما ما نزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات الاجتماعيّة التي لا تتكلّف صناعة الحقيقة بقدر ما تحاول البحث عنها عبر وجهة نظر مختلفة مثل قولنا:

إن بواسطة حزب البعث، ثم بدونه، حكم آل الأسد سوريا لعقود مديدة، عمّقَ النظام خلالها لبنيته الأمنيّة، وأرسى ثقافة محلّية متواطئة معه ومعبّرة عنه في الآن ذاته.

خلال عقود الاستبداد تمكّن الأسد الأب من هزيمة معارضته الإخوانيّة أوّلاً، ثم قمع كل معارضة له بذريعة الحرب على الإخوان، فتفكّكت عُرا الأحزاب السياسيّة وانطوت الأحزاب على نفسها، وعاش المعارضون السوريون بين سجين أو هاربٍ إلى المهجر، ما أحدث قطيعة سياسيّة وثقافيّة بين المعارضة وبين الشارع السوري.

منح انهيار النظام العرقي أوّلاً النظامَ السّوريّ وقتاً إضافيّاً لممارسة بعض المناورات السياسيّة، مثل أن يبدو، في ظاهره، راغباً في أن يتغيّر ولكن بخطوات "مدروسة" باتجاه "الدّيمقراطيّة"!

تضاءل الأمل، خلال العقود التالية، في تغيير المعادلة داخليّا، لولا أن أحداثاً سياسيّة عالميّة أنذرت النّظام السوري بضرورة التّخلي عن أساليب القمع التقليدية. ولعل إحدى أهم تلك الأحداث كان انهيار النظام البعثي في العراق سنة 2003 على يد التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ما أحدث بدوره خللاً في الطبيعة الوظيفيّة للنظام السوري، القائم، في جزء مهم منه، على خصومة سياسيّة مع بعث العراق، وعلى مقولات ثقافيّة بعثيّة يطلُّ عبرها على الشارعين السوري والعربي..

منح انهيار النظام العرقي أوّلاً النظامَ السّوريّ وقتاً إضافيّاً لممارسة بعض المناورات السياسيّة، مثل أن يبدو، في ظاهره، راغباً في أن يتغيّر ولكن بخطوات "مدروسة" باتجاه "الدّيمقراطيّة"!

بالتزامن.. حاولت المعارضة استثمار ما بدا لها "انفتاحاً سياسيّاً" عبّر عنه الخطاب الأوّل لـ "الرئيس الشاب" أمام مجلس الشعب السوري في 17 / 7/  2000. ومن جانبها أطلقت السلطة شعارات: "التطوير والتحديث". في حين راوحت المعارضة بين الإحجام والإقدام في تلك المرحلة.

ومن النشاط "السياسي" الخجول للمعارضة في تلك الفترة إصدار مجموعة من "الأحزاب والشخصيّات" عام 2005 ما سُمّي "إعلان دمشق" الذي تضمّن نقداً "سياسيّاً" للسلطة في موضوعة الحريّات –السّياسيّة - والفساد.

بتاريخ 9/6/2005 اختتم حزب البعث العربي الاشتراكي، في سوريا، مؤتمره القطري العاشر بإصدار مجموعة من التوصيات، من بينها قانون الأحزاب الجديد وتبني اقتصاد السوق الاجتماعي.

وقبل نهاية 2005، تم الإعلان عن انطلاق حزب "سياسي" سوري معارض وجديد حمل اسم: "حزب الوطنيين الأحرار" إلّا أنّ شهوراً قليلة كانت كافية للإعلان عن فشل التجربة الحزبيّة. وعن أسباب فشل تلك التجربة يمكننا العثور على تعليق لأحد أعضائها: (إنّ التوجه كان ليبراليّا؛ لولا خلافات حدثت بين البرجوازيتين الدمشقيّة والحلبيّة). فيما علّق معارض آخر بأن الفشل كان متوقعاً، بسبب: (العجلة والإسراع دون مناقشات.. وقمع استمر لأكثر من "أربعين سنة") بحسب مقال منشور في موقع "إيلاف" وعائد لتلك الفترة.

إذا كنّا قد ذكرنا المعارضة مقرونة بتركيبي: "النضال السياسي والقطيعة الثقافيّة" فليس ذلك مجّاناً، بحسب زعمنا، بل لأنّه سيترك أثرا مستمرّا ينبغي إعادة قراءته في أحداث السنوات اللاحقة.

بموازاة ذلك فإنّ العلاقة السياسيّة بين الشعب والنظام لم تكن مطروحة بالمعنى المدني أما "العلاقة الثقافيّة" فربّما ما يزال يتذكر كثير من السوريين، المولودين في فترة الثمانينات وما قبلها خاصّة، التلفزيون الرسمي السوري، ونشرتي الأخبار عند: (30-8) والـ (11) ليلا، لا لأنّهم كانوا حريصين على متابعة الأخبار، بل لأنّهم كانوا ينتظرون فراغها لمتابعة ما بعدها..

يتذكّر السوريون تلك الفترة حيث لا مصدر فيها لـ "المعرفة" إلا ما تنتجه وسائل النظام أو ما تسمح بمروره عبر وجبات ثقافيّة معلّبة ومحسوبة.

منذ بداية التسعينيات حتى مطلع الـ 2000 بدأت الأجهزة الفضائيّة بالظهور على أسطح المنازل، إضافة إلى دخول الشبكة العنكبوتيّة لاحقا، حيث بدأت مفاعيل "مصادر المعرفة" الجديدة والمتنوعة تصل إلى الجيل الجديد الذي تفاعل مع الأحداث العالميّة الكبرى، كسقوط بغداد، والحرب الروسيّة على الشيشان، أو الأميركيّة في أفغانستان، بوعي منفصل سياسيّا وثقافيّا عن النظام وعن المعاضة كليهما.

ليس تاريخ 18 أو 15 من آذار 2011 سوى مناسبة للإعلان عن ولادة الوعي الجديد، أمّا مرحلة تكوّنه فربما يجدر بالدارس البحث عنها بين الأعوام 1990/ 2011 حيث لا تأثير يُذكرُ للمعارضة لا بسبب قبضة النظام الأمنية التي تقر المعارضة السياسيّة بها فقط، بل بسبب غياب مشروع اجتماعي معارض ينتمي للحقبة الجديدة أيضاً.  لذلك، ربّما، لا تكاد تمرّ أدبيّات المعارضة هذه الحقبة إلا كما يمر المذعور وسط مقبرة!

الثورة/ الحريّة بالنسبة إلى النظام مولود غير شرعي، لذلك فإن وصفه لها بـ: "مؤامرة كونيّة حاكها الغرب، بالتّعاون مع المعارضة العميلة"، وادّعاءه أنّ: "المتظاهرين كانوا يقبضون في كل مظاهرة خمسمئة ليرة ويتعاطون حبوب الهلوسة في سندويشة الفلافل.."  ما هو إلا توصيف صادق لكذب أو وهم نظامٍ سلطوي ما كان يمكن أن ينجب ثورة حريّة!

لكن وبالمقابل، ربما راقت مقولات النظام عن الثورة عام 2011 للمعارضة؛ فليس غير تلك القراءة الخاطئة يمكن اعتباره دليلاً على ارتباط الثورة بالمعارضة. ومن ثمّ سوف تعمل المعارضة، بالفعل، على تدعيم قراءة النّظام، ببناء شبكة علاقات بينها وبين الدّول لاعتماده المعارضة ممثلاً سياسيّاً للثورة، وبينها وبين من تمكّنت من التأثير عليهم لاحقاً داخل محاولات المأسسة التي شهدتها الأشهر الأولى لثورة 2011 لتلطيف الخلل الأخلاقي والسياسي.

كذلك يمكن تتبع الأثر الثقافي للمعارضة عبر (الإقحامات الثقافيّة) في سيرورة إنسان الشارع السوري الشاب. إذ غالبا ما تعود تلك الإقحامات إلى حقبة وعي معارض لكنّه تاريخي.

الحديث عن الحريّة يمكن لإنسان الشارع السوري تناوله والتفاعل معه دون كثير عناء. في حين أن الحديث عن تقاسم السلطة كخطاب سياسي معارض يحتاج جهداً مرافقاً لتأمين تفاعل شعبي سوري..

تنبع أهميّة تمييز هويّة الثورة من أن أسباب "فشلها" مختلفة عن أسباب فشل المعارضة. إذ بوسع المعارضة أن تغيّر أرقام عقود الاستبداد الأسدي من (أربعين، خمسين.. إلى ستين) كما ذكر بالحرف السيد: صبرة، في اللقاء المذكور أعلاه لتبني المعارضة سرديّةً تناسبها. أمّا الثورة التي قطعت سلسلة عقود الاستبداد فإنّ فشلها عائد، ربّما، إلى ضرب الأسس البنيوية لولادتها: كبث الفتنة الطائفيّة أو الاثنيّة بين السوريين، وتهجيرهم وإفقارهم.. ثم تغيير مفهوم السوريين عن الحريّة.

ربّما يمكن للكلمات البسيطة أن تسهم في جلاء حقيقة بسيطة مثل زعمنا: أنّ ثورة 2011 ثورة ثقافيّة اجتماعية في المقام الأول وسياسيّة في جزئية لاحقة.. لذلك فإن الحديث عن الحريّة يمكن لإنسان الشارع السوري تناوله والتفاعل معه دون كثير عناء. في حين أن الحديث عن تقاسم السلطة كخطاب سياسي معارض يحتاج جهداً مرافقاً لتأمين تفاعل شعبي سوري..

ربّما يمكننا أيضا تعليق السرديات التي تبناها النظام والمعارضة عن الثورة على مناط "القطيعة الثقافيّة" خلال عقود ما قبل الثورة خاصة، ذلك أنّ الثورة السوريّة: هي حدث ثقافي اجتماعي قطع تسلسل تلك العقود، وأنّ الحريّة هي الفاعل المنتج للثورة، وهي الأم الأصيلة لثورة لا أبا لها.