icon
التغطية الحية

"معجم منهار".. مجاز لانهيار المعنى واللغة والحياة اليومية في لبنان وسوريا

2023.09.20 | 11:15 دمشق

معجم منهار
إطلاق "معجم منهار" في بيروت ـ خاص
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

يُؤسس كتاب "معجم منهار" الصادر حديثاً لمجموعة من الكتّاب والكاتّبات في لبنان على مجموعة مصطلحات، أو ما يصفه فريق التحرير بـ"جدول مصطلحات منهارة"، هي مصطلحات قد تكون عادية لأنها جزء من أساسيات الأحاديث اليومية المتداولة في أي مكان أو زمان في لبنان، مثل "المنقوشة" أحد أساسيات "الترويقة" الصباحية. لكن، ومن باب الأمانة ما لفت انتباهي في المصطلحات المنتقاة بعناية وسخرية معاً تصدّر كلمة "العرصات" قائمة "المصطلحات المنهارة".

لعلّ سبب هذا الانتباه هو عودتي بالذاكرة إلى بداية الاحتجاجات في سوريا قبل أكثر من عقد من الزمن، عندما تداول السوريون على منصات التواصل الاجتماعي الجملة الشهيرة "هو منيح بس اللي حواليه عرصات"، ناهينا عن وقع الكلمة في مصر. يحمل المصطلح في أم الدنيا وقعاً من نوع مختلف انتشر بمعية قوى المعارضة المدنية سنة 2014.

ولئن كان المشترك في استخدام كلمة "عرصا" أنها موجهة في دفاعنا ضد السياسيين والطبقة الأوليغاريشية، ومن حالفهم أو مال إلى صفهم أيضاً، وكم لنا من نماذج لا تعد ولا تحصى في الدول السابقة، كان اختيارها مهماً في افتتاحية تقديم القراءة الأدائية لعرض "أداء ينهار" الذي قدم قراءة لكتاب "معجم منهار"، لتكون بمثابة تأكيد على أننا نعيش "في عصر العرصات والواطي شنق حالوا!"، كما يقول هاشم عدنان (مخرج العرض) في نص "عرصات".

في هذه القراءة الأدائية تقدم فاطمة مروة بالاشتراك مع نسيم بنّا قراءة لـ13 نصاً مع مقدمة وافتتاحية، يرافق القراءة أداء حركي، وشاشة يعرض عليها مجموعة من الصور المختارة لـ"معجم منهار" مع مقاطع فيديو تُمثل الذاكرة الصورية في لبنان، مقاطع مركّبة (تصميم كارلا عوّاد) من فيديوهات تتفاعل مع الموسيقا (تنسيق محمود أبو زيد )، تروي جوانب مختلفة نستكشف فيها دور اللغة في انهيار لبنان، صحيح أنها أضحكتنا في بعض الأماكن، لكنها ذكّرتنا كيف كنّا نسير إلى الانهيار بخطوات ثابتة وبطيئة.

لماذا "أداء ينهار"؟

في دردشة سريعة لـ"موقع تلفزيون سوريا" مع هاشم عدنان، أردنا الاستفسار في البداية بشأن ذهاب القراءة إلى القراءة الأدائية عوضاً عن القراءة الكلاسيكية، يفسر لنا ذلك بالقول: "خلال عملنا على القراءة تبيّن أن الكتاب يتضمن نوع من الحوار بين النصوص المكتوبة، ومختلف الكلمات المطروحة في الكتاب، لذلك وجدنا أن النصوص تدفعنا بشكل خاص تجاه تنظيم العرض، وتكرار الكلمات في مختلف النصوص".

ما ميز القراءة الأدائية أنها استطاعت التوليف بين النصوص والربط بينها بتحويلها إلى نص واحد، مع الإشارة إلى عنوان وكاتب وكاتبة كل نص، هكذا نجد العرض عندما يختم أحد النصوص بكلمة "اشتراك" فإن الانتقال يكون تلقائياً إلى نص "اشتراك" نفسه، يوضح عدنان هذه النقطة بأن "هذا التكرار هو الذي دفعنا للاشتغال على قراءة أدائية، وإدخال أفعال وصور وتحركات، وكانت هناك علاقة مع الشاشة/الفيديو، والعلاقة مع الممثل والممثلة الموجودين على المسرح، وثم العلاقة مع الجمهور"، ويتابع مضيفاً  أن "العلاقة مع النصوص جداً لصيقة، وحتى نستطيع أخذ مسافة من النصوص كنا بحاجة للمسرحة، وأعتقد أن التوجه لتقديم عرض أدائي هو رغبتنا أن يكون لدينا مسافة مع النصوص التي نقرؤها، ونستطيع طرح خيال حولها ننطلق منه كأفراد اشتغلنا على هذا العرض، وليس فقط من نصوص الكتّاب والكاتبات".

معجم منهار

لا يوافق عدنان في حديثه عن فكرة أن القراءة الأدائية "مسرحة الانهيار" في لبنان، موضحاً أن الاشتغال كان"على طرح الكلمات ومعالجة القوة السياسية لهذه الكلمات والتغيّرات التي طرأت عليها، والمعاني الجديدة التي اكتسبتها أو خسرتها هذه الكلمات"، ويضيف أن سبب العودة إلى نص "انهيار" في القراءة الأدائية كان بسبب "وجود كلمة انهيار في جميع النصوص بشكل أكبر عن باقي الكلمات، لذلك كانت الكلمة موجودة في أي نص آخر عندما كنّا نقرأ النصوص، حيث كنا نحاول إيجاد طريقة لنتعامل مع هذه الكلمات والتفكير مع الجمهور بهذه الكلمات دون أن نغرق فيها".

المقاطع المختارة من نصوص "معجم منهار" في القراءة الأدائية كان لها تأثير متناقض بين الضحك والصمت،  والتفكير بين الماضي والحاضر في الحال الذي وصل إليه لبنان في يومنا الراهن، جعلت الجمهور يظهر تفاعلاً مع العرض، يعتبر عدنان أن سبب التفاعل مع العرض "كان الشكل الذي اختاروه، والمسافة التي وضعوها بينهم وبين النصوص، وأيضاً طريقة كتابة النصوص لأن لعبة [معجم منهار] هي معالجة كلمات فيها ديناميكية، وطريقة المعالجة في الشكل الذي اختاروه هو القراءة الأدائية، واستخدام الفيديو باختيار إعلانات ونوع الموسيقا التي تعبر عن حقب زمنية مختلفة"، كذلك ما ميز هذه القراءة أداء فاطمة ونسيم، الذي منح العرض شعوراً مختلفاً عن المتوقّع في مثل هذه القراءات، ويعيد عدنان هذا التميز إلى أنهما "من الجيل الشاب، ولديهما علاقة جديدة مع هذا المحتوى، وفي جزء كبير كان المحتوى يعالج العمق التاريخي للأزمة اللبنانية، لذلك كان العرض يمثل لهما عملية استكشاف انعكست بالأداء والحضور على خشبة المسرح".

تشابه سياقات الانهيار في المنطقة

بالرغم من خصوصية العرض و"معجم منهار" في عرضه لأسباب "انهيار لبنان" التي بدأت فصولها تتضح في عام 2019، نلاحظ في مطارح معينة تشابهاً واضحاً مع الحالة السورية الراهنة، حتى في مصطلحات "معجم منهار" ترد كلمات لها حضور في الواقع السوري مثل "الهلع، الصهر، 51%، السوري، انتصار"، عندما أخبرت عدنان عن وجود تشابه بالحالتين، لكن بطريقة مختلفة، رد بالقول: "هناك شيء مرتبط بمراحل الأزمات والانهيارات على مختلف الأصعدة كما الوضع مع الحالتين السورية واللبنانية، والتأزم العسكري الأوضح في سوريا"، وتابع مضيفاً "هي لحظات متشابهة لكن في سياقات مختلفة، لأنه في النهاية جميع هذه الدول، وخاصة دول هذه المنطقة، تعيش نوعاً ما في سياق نزاع فج ومشترك على الموارد والثروات والنفوذ".

معجم منهار

وهو يرى أيضاً أن "هناك الكثير من التشابهات التي حصلت، ومنها توجه النظام السوري قبل الثورة نحو سياسيات نوعاً ما نيوليبرالية بدأ يتكون معها طبقة لديها امتيازات اقتصادية ملتصقة به، فأصبح يشبه نوعاً ما السياق اللبناني، مع أن السياق اللبناني متطرف جداً بالنيوليبرالية، بينما سوريا كان لديها سابقة تجربة مرتبطة بالاشتراكية بحضور الدولة على مستوى تقديم الخدمات الأساسية"، وهو يرى هنا بوجود "تجربة مشتركة نستطيع لمسها بين العراق وسوريا ولبنان، حيثُ كان يوجد عسكرة وحرب ومحاولات تقسيم إثني ومذهبي وطائفي، لهذا أرى أن السياق في هذا المنطقة أصبح يشبه بعضه كثيراً".

علاقة لبنان مع كلمة "السوري" قديمة

في السؤال عن سبب اختيار كلمة "السوري" في المصطلحات عوضاً عن اللاجئين أو النازحين، يوضح عدنان أن "العلاقة مع كلمة السوري في لبنان هي علاقة قديمة، والعلاقة في عام 2019 أو حتى قبله مع موضوع اللاجئين مختلفة جداً عن الآن، صحيح أن الحدّية وصلت إلى مرحلة معينة، لكن الانتفاضة كسرت القرار الذي اتخذه مجلس الدفاع الأعلى في لبنان ببدء ترحيل اللاجئين، لم يكن اسمه ترحيلا قسريا حينها، بل كان اسمه عودة طوعية، كان ذلك قبل 17 تشرين الأول في 2019، لكن الحدّة لم تكن مثل اليوم، لأن الانهيار لم يكن مكتملاً، لذلك لم يكن هناك منافسة على الدولار".

ويضيف عدنان في ختام حديثه مع موقع تلفزيون سوريا أن "كلمة السوري سابقة كثيراً لكلمة اللاجئ، وهي تحمل في طياتها تمييز جداً، لكنها في الوقت نفسه تحمل طرحا مرتبطا بسيطرة النظام السوري على لبنان في الماضي، وفي الوقت نفسه تطرح موضوع التمييز والعنصرية التي تمارس في لبنان تاريخياً على العمال السوريين، لذلك كلمة السوري موجودة جداً قبل كلمة اللاجئين"، لافتاً إلى أن الكلمة طرحها أكثر من شخص في أثناء عملهم على وضع مصطلحات الكتاب.

نظرة سريعة على نصوص "معجم منهار"

تقول سينتيا كريشاتي في مقدمة الكتاب: "ينبع اهتمامنا بهذا المعجم من فضول مشترك حول إمكانات الصور والكلمات في معالجة التحوّلات المجتمعية المدمرة في لبنان منذ العام 2019"، ومن هذا الجانب تبرز اختيارات آلاء منصور المتنوّعة، اختيارات "استفزازية" للصور المسحوبة من منصات التواصل الاجتماعي، واللوحات الإعلانية الطرقية، الملصقات والغرافيتي، تأخذ النصوص إلى ضفة نقدية ساخرة من واقع "الانهيار" الراهن، وهو ما يشير إليه أيضاً عمر الغزي في افتتاحية الكتاب "في الأزمنة الاعتيادية، تتغير معاني الكلمات بشكل تدريجي وعلى مدى السنوات. أما في الأوقات الاستثنائية، مثل الانتفاضات والثورات، فتتسارع وتيرة هذا التغيير".

يفتتح "معجم منهار" أولى نصوصه بـ"اشتراك" لكريستيل خضر التي تعود بذاكرتها إلى سنة 1990 لتخبرنا عن أول مرة سمعت بكلمة "اشتراك" متذكرة تعالي الأصوات ابتهاجاً بعودة "نور الاشتراك"، وفي نهاية المطاف هي الكلمة نفسها التي أصبحت "في لا وعينا الجماعي ولغتنا الشعبية مضادة لكلمة الدولة بعد أن تحذف كلمة كهرباء من أمامهما". في النص الثاني "انتصار" يقرأ فوزي ذبيان المصطلح من زواية تحوّله عند جمهور حزب الله إلى "واقعة بصرية بامتياز". وتستعيد سحر مندور في نص "انهيار" ذكريات غير سعيدة بدءاً من فترة الثمانينيات التي جاء "الانهيار كالضرب في الميت" مروراً ببدايات 2019 وصولاً إلى "الانهيار حيث نحن الآن".

معجم منهار

تروي سارة مراد في نصها "إهراءات" علاقتها مع هذه الكتل الإسمنتية التي مضى على وجودها 50 سنة حتى ما قبل انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020، قبل أن تصبح بعد ذلك مثل جميع الشواهد المادية "الشاهد الصامت" لجثث "فوتوجينية ملائمة للتصوير، تجسّد مدينة مسكونة بالأشباح، وتشبع هوسنا بمشهدية الفاجعة". ويختار سيرج حرفوش الكتابة في نص "دعم" عن تنوّع استخدام المصطلح من "مطلوب دعم عالرينغّ!" حتى "دعم السلع الضرورية"، ولكلمة "الضرورية" وقع مختلف في نص حرفوش. أما نعيم حلاوة فيمهد لنص "صهر" بالمثل العامي الشهير "الصهر مَسنّد الظّهر"، والحديث هنا   عن "ما غيرو" جبران باسيل "مالئ الدنيا وشاغل الناس، في لبنان وسائر المشرق، وبلاد الانتشار، وأصقاع المعمورة".

يحكي هاشم عدنان في نص "عرصات" تاريخ تغيّر وتطوّر وتقنن استخدام الكلمة، وكيف بدأت الكلمة تكتسب "مكانة ثابتة في مواجهة محاولات تأديب الانتفاضة وتهذيبها"، فالكلمة في النهاية "جزء من المخزون المعرفي الشفهي في لبنان". كما يكتب حسن الساحلي في نص "مستقبل" قصة شخصية تربط بين ماضي والدته مع "مستقبل" لبنان في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وانتفاضة 17 تشرين الأول 2019،  وعند مقارنته بين الماضي والحاضر نكتشف معه كيف "طيش الأحلام" تبخّر على أرض الواقع. وتطرح فيفيان عقيقي في نص "مودعون" إحصائيات عن المودعين اللبنانيين تستند إلى تقارير البنك الدولي، وتصل إلى أنه بالرغم من انحصار "الانهيار" بين المودعين والبنوك، بينما النسبة الأكبر 83 في المئة من اللبنانيين والمقيمين لا يملكون حسابات مصرفية، إلا أن ذلك لم يمنع في النهاية من "دفع الثمن من قبل المجتمع ككل".

تعيد ريما رنتيسي في نص "Haircut" (هاركت = قصة شعر) قراءة المصطلح بناء على قصة شخصية حصلت معها في صباح يوم الانفجار، لكن قبلها كان الاقتصاديون قد بدؤوا بتداول مصطلح "قص الديون"، وكانت نتيجة هذا السياسة أن "بُترت أطراف الجميع". ويضيف مسعد الأسعد في نص "هلع" قصة شخصية أخرى بالانتقال في ذاكرته من مشاهدته فيلم "Caché" (مستور) في سينما الكندي في دمشق إلى بدايات انتشار الجائحة في لبنان في آذار (مارس) 2020، حين صرح وزير الصحة بالقول "لا داعي للهلع"، و"الهلع" في نهاية الأمر ليس بالمصطلح الجديد على لبنان، بل "كان (مستوراً) وربما يثير الاستهزاء عند البعض".

وتقارب سارة قدورة في نصها "NGOs" (منظمات غير حكومية) المفهوم من وجهات نظر الجهات التي تنتقدها على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بينما تمثل لشريحة كبيرة "المساحات الوحيدة التي يمكنهم العمل فيها"، بالرغم من خطورتها في "تحويل القضايا الثورية والسياسية إلى وظائف". في النص الأخير "1500.. ألف وخمسمئة" تفكك أمل طالب أسطورة صمود سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الواحد الأميركي عند حاجز 1500 لنحو 30 سنة، بالرغم من أن لبنان "بلد لا بيصنع ولا بيزرع ولا بينتج"، بالنسبة لجيلنا/ جيل سارة "منتذكر ومنتحسر" على تلك الأيام. أما اليوم، وفي حال "فكّرت الليرة تحكي" فإنها ستقول جملة واحدة: "قدّيش الدولار اليوم؟".

تتنوّع نصوص "معجم منهار" في استعادة فصول "الانهيار" التي بدأت منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وتختلف الحكايات في تفكيك "انهيار" لبنان الذي عانى من أزمات متتالية منذ الثمانينيات، صحيح أنها مسيرة تختلف في ظروفها ووقائعها وأحداثها عن مسيرة دول أخرى، لكن واقع الأمر يروي كيف كنّا نسير مع بعضنا بعضا نحو "الانهيار" في معظم دول المنطقة. ومثل تنوّع النصوص بين المهذب وغير المهذب، بين اللغة الفصحى واللغة المحكية، تتنوّع الحكايا والشروحات عن حالة انهيار المعنى واللغة والحياة اليومية وكل شيء، لتظهر كما لو أنه اتفاق بين جميع الحالات على توسّع "قاموس الانهيار" في حياتنا اليومية.

لقراءة أو تحميل النسخة المجانية إلكترونياً يمكنكم الضغط هنا.