معايير سورية للتعزية في المبدعين والفنانين والسياسيين

2024.04.14 | 06:59 دمشق

تشييع المخرج السوري حاتم علي
+A
حجم الخط
-A

هزت ثورة عام 2011 معظم الثوابت الاجتماعية والفكرية لدى السوريين وباتت كل تفاصيل حياتهم ملتهبة بالأسئلة والتشكيك والمعايير والثوابت والمتحولات، وغدا كل تفصيل في الحياة السورية اليومية مثاراً لأسئلة وموضعاً للتمعن والمغالاة أحياناً، وربما ليس من المبالغة القول: إنك حين تحتك مع المجتمع السوري اليوم فإنك تحتك بحقل ألغام، لا تعرف متى سينفجر بك أو أمامك أو حولك، إن أردت ذلك أو لم ترد، من حيث تدري أو لا تدري. والأسباب تعود إلى فقدان المؤسِّسات القيمية واختلافها وتغيرها في السنوات الأخيرة تبعاً للموقف السياسي والفكري والمجتمعي والديني، وتقاطعها في سياقات كثيرة مع المصالح الشخصية أو المناطقية أو الطائفية أو العشائرية والعائلية.

يحاول كثيرون ربط كل شيء بمعايير ثورة عام 2011، لا حل أمامك إما معنا أو علينا، ويتقدم آخرون خطوة إلى الأمام ليقولوا: إما أن تكون مع القيم الإنسانية للثورة أو لا تكون، لا حل ثالثا! هذا غالباً هو المشهد عند المعارضين السوريين، أما في حالة النظام السوري ومؤيديه وكذلك في مناطق سورية أخرى كحالة قسد أو سواها فالاستقطاب على أشده، ولا يختلف كثيراً، إما أن تكون معنا أو مع عدونا، وكأن ما ردده السياسيون من كل الجهات ذات يوم غدا جزءاً من الثقافة السورية، وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على مزيد من التشرذم والاختلافات والاستثمار في الإساءة للآخر بصفتها "ترند" يمكن أن يعمل فيه كثيرون، وتجد تسقّط الأخطاء والصور واللقطات والعيوب قد أصبح عملاً لكثيرين، كأن هذا المجتمع السوري كان ينتظر مثل تلك اللحظة التاريخية ليخرج كل ذلك القيح الاجتماعي المتراكم سنوات طويلة والذي كان مغطى بقمع النظام والخوف والهروب نحو كلمات جوفاء يلتبس بها الوطني بالقومي.

ومن الأمثلة التي تظهر جزءاً من مأزومية المجتمع السوري ما يتم تداوله إبان رحيل أي كاتب أو مبدع  (سوري أو عربي) من حيث الترحم عليه أو الإشادة بمنجزاته أو الوقوف على عثراته وحسناته وسلبياته، حيث يربط كثيرون رأيهم به بموقفه من قيم الثورة لدى المعارضين من جهة، ويبادلهم المؤيدون للنظام الموقف الحاد ذاته من جهة أخرى. والفريقان كلاهما لديهما الثقة بأنهما على حق.

وبالتأكيد لا يمكن الموازنة بين مؤيد لقاتل أو مجرم وداع لارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب السوري، بموقف ثائر وقف مع القيم الإنسانية وناصرها.

وهذا الخلاف يتأجج كلما رحل مبدع أو كاتب تبعاً لأهمية الشخصية المتوفاة وقيمتها لدى السوريين، ليكون مثار خلاف جديد بين السوريين، مما يقود للتفكير بمعايير مشتركة لدى أكبر شريحة من السوريين في التعزية أو الفرح، والتساؤل من أين نستمد تلك المعايير الاجتماعية؟ وهل شهدت تلك المعايير تحولات منذ عام 2011 إلى يومنا هذا مما يمكن أن يكشف عن جوانب من المزاج العام لدى السوريين عامة. وإن كان ما يهمنا في هذا السياق تحولات المزاج لدى المؤمنين بقيم الثورة السورية بصفتها حالة ولادة جديدة مؤلمة وجميلة وواعدة لدى فريق كبير من السوريين.

اجتماعياً، تشكل حالة العزاء فرصة لمصالحات أو كسر للجليد بين المتخاصمين، لكن كيف لها أن تكون كذلك والجرح لدى السوريين لا يزال مفتوحاً على مفقود من هنا وراحل من هناك ومهجر وهارب بينهما؟.

هذا الصراع السوري حول موقف إنساني يتمثل في الموت والرحيل والتعزية هو امتداد لتسويد صفحة فريق لفريق آخر، كجزء من مشهد توصيفي يرى أن تاريخ سوريا المعاصر كله خراب في خراب في خراب

يحاول فريق من السوريين اقتراح مدونة سلوك أخلاقية بعد انتهاء مرحلة ذروة التجاذب الأعلى لدى السوريين من مختلف الأطياف، وقد تتضمن هذه المدونة شيئاً من الأساسيات التي يجب ألا يختلف حولها البشر عامة، فهناك فرق كبير بين من سوغ الجريمة أو شارك فيها من جهة أو التزم الصمت نتيجة الخوف أو ظروفه الخاصة من جهة أخرى، أو كان جزءاً من جهاز الدولة السورية الخدمي أو الإداري الوظيفي.

هذا الصراع السوري حول موقف إنساني يتمثل في الموت والرحيل والتعزية هو امتداد لتسويد صفحة فريق لفريق آخر، كجزء من مشهد توصيفي يرى أن تاريخ سوريا المعاصر كله خراب في خراب في خراب، انسجاماً مع حالة العدمية، وإما أن تكون معنا أو علينا، حيث يستسهل سوريون كثيرون استجلاب الطاقة السلبية والبحث عن مثالب الآخر او اصطناعها!

تقليدياً، لكل مجتمع آباء وحكماء ومؤثرون وفلاسفة، و"كبار" حتى قيل "اللي ما عنده كبير يشتري كبير" أما اليوم فقد ضاعت الطاسة وتصارعت المرجعيات لدى السويين ولم يعد كثيرون يحترمون كبيراً أو صغيراً، بل صار التطاول على الآخر وتقزيمه ميزة وموضع فخر، وغدت محاولة إعدامه اجتماعياً وإعلامياً موضع "رفع رأس".

للأسف لا يبحث كثير من السوريين للسوريين الآخرين عن سبعين عذراً أو سبعة أعذار أو عذر واحد، بل يتفننون في تكسير مجاديفهم والبحث عن عثراتهم ونواقصهم بحجة التطهر المطلق وثقافة الأبيض والأسود، وضرورة أن يكون كل شيء "على المكشوف". إلا إنْ كان السوري الآخر من "جماعتنا أو فريقنا أو حزبنا أو شلتنا"، وقتها يتغير مجرى الحديث ويصبح البحث عن الأعذار المخففة فرض عين!

من المؤلم أن سوريا الحديثة، عبر نحو قرن من بدء تشكلها، لم تستطع أن تفرز شخصيات عامة تكون موضع اتفاق بين السوريين عامة بحيث تكون أداة جامعة كجزء من الحماية الهوياتية، بل إنك واجد أن الكثير من السوريين ينبشون في هذا الرمز أو ذاك بحجة الموضوعية تارة أو ضرورة أن نعرف التفاصيل وأن لا نبقى مغشوشين تارة أخرى.

 وتتتابع الأسئلة لعلنا نجد مقترحات للمعايير القيمية أو الأخلاقية أو "الوطنية" التي ترشدنا جميعاً إلى أسس الفرح أو الحزن أو الهجوم أو التضامن التي تولد حداً أدنى من المشتركات التي يمكن البناء عليها لاحقاً في إطار البحث عما يجمع السوريين، لأنه تم البحث مطولاً فيما يفرقهم. دون أن نخلط الأمور أو نميعها أو "نرمدها" لأن القيم الإنسانية والأخلاقية بلجاء، عم ضوءها الكون، وليس من الضروري إعادة اكتشاف العربة والدواليب والحصان كلما رحل كاتب أو مبدع أو تشارك سوريون حالة فرح أو تحقيق منجز وسط هذا الخراب الاجتماعي الذي فقد "فرامله" ومهدئاته!

 

كلمات مفتاحية