مشهد الانتخابات الأميركية

2020.08.22 | 00:01 دمشق

ed6015b9566d83cee2038777c78665c1_xl.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع البدايات المبكرة للتاريخ الأميركي، قال أبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة: "الانتخابات ملكُ الشعب. إنها قرارهم. إذا قرروا إدارة ظهورهم للنار بحيث تحرق مؤخرتهم، فإن عليهم بالضرورة الجلوس على البثور التي ستظهر عليها نتيجة ذلك".

واليوم، مع الانتخابات الرئاسية رقم 59 في التاريخ الأميركي تُظهر الوقائع أن الشريحة المتفاعلة، من الشعب الأميركي، مع هذه العملية السياسية، الفريدة عالمياً، تُحقق نبوءة الرئيس الأميركي المُخضرم السابق. حيث يعيش الشعب الأميركي مع ألم البثور التي نتجت عن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد منذ أربع سنوات.

لاتشبهُ انتخابات أميركا الرئاسية شيئاً آخر، اللهم سوى أميركا نفسها. غريبةٌ في أحداثها وتطوراتها. يتعايش في خضمها المعقول واللامعقول. تُظهر أحسن ما في أميركا أحياناً، وكثيراً ما تُظهر أسوأ ما فيها. لكن الانتخابات الراهنة تحديداً بلغت، في تطوراتها، درجةً من السوريالية لم تشهدها في تاريخها بإجماع المراقبين في هذا البلد.

خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، مثلاً، كلّف ترامب وزير العدل، ويليام بار، بتشكيل فريق كبير للتحقيق في (أو في الحقيقة لصناعة فضيحة) تتعلق بتآمر أوباما، ومنافسه الحالي جو بايدن، مع روسيا وتآمره معها لهزيمته في الانتخابات الماضية. لم تؤخذ المسألة بجديةٍ كبيرة، لأن مثل هذا التحقيق تمَّ سابقاً، ومن قِبل وزارة العدل، في بداية فترة ترامب الرئاسية، لكنه لم يُسفر عن شيء، وتمت تبرئة الجميع. من هنا، تتصاعد رائحة (طبخ القضية) والفساد الظاهر فيها من خلال إعادة إثارتها والتلاعب في مجرياتها إلى درجة تصريح بارز، بكل وضوح، أن ثمة أموراً مهمة سيتم الإعلان عنها في هذا المجال، وقبلَ الانتخابات!

خلال تلك الفترة، وقّعَ أكثر من ألفي (2000) موظف سابق من كبار موظفي وزارة العدل (جمهوريين) و(ديمقراطيين) عريضةً (مفتوحةً للتوقيع) يُطالبُ فيها أصحابها باستقالة وزير العدل المذكور فوراً، لأنه حسب قولهم أكثر وزراء العدل فساداً في تاريخ أميركا، وأنه لا يُمثل الشعب الأميركي، وإنما يَعتبرُ نفسه، ويتصرف كمُحامٍ خاص لترامب.

جاء هذا بعد يومين من قرار وزير العدل بسَحب كل الاتهامات التي وَجّهتهَا نفسُ الوزارة، بقيادته، منذ عامين إلى مستشار الأمن القومي السابق لترامب (مايكل فلين)، والذي طرَدهُ ترامب نفسه، بعد 41 يوماً من تعيينه في المنصب، بعد أن قال إنه كذبَ على نائب الرئيس (مايكل بنس) وعلى وكالة الـ FBI، بخصوص بقائه (مُوظفاً بمرتبٍ شهري للدفاع عن مصالح روسيا وتركيا حتى بعد تعيينه في المنصب). ويبدو هذا خبراً من مجموعة أخبار تتحدث عن خطةٍ لترامب بإعادة بناء إدارته وهيئة موظفيه بالكامل، قبل الانتخابات القادمة، أو بعدها إذا فاز بها، بحيث تضمُّ أكبر عدد ممكن من الشخصيات (الفاسدة). بمعنى، كل مَن وقف معه ودافعَ عنه وهاجمَ خصومه ومَدَحهُ في كل مناسبة.

والحقيقة أن ترامب يُمارس في مجال الفساد والفضائح المتعلقة به ما يمكن أن يوصف بدقة بأنه عملية "إغراق"، وبحيث لم يعد لا الرأي العام ولا الإعلاميون والمراقبون والخُبراء، ولا حتى الساسة، قادرين على مُلاحقة تتاليها ومجرد إحصائها. وهي، للمفارقة، فضائحُ لو حدثت واحدةٌ منها في عهد رئيسٍ سابق لتسببت في طردهِ أو استقالته على الأقل. من هنا يبدو الاهتراء في هذا البلد وقد وصل إلى درجةٍ قال معها (توماس فريدمان) لقناة NBC هنا منذ أيام: "نحن لا نقود. نحن لا نتبَع. نحن ضائعون. نحن نسبح في مجرة )درب التبانة( وحدنا"..

ثمة عنصر آخر خطيرٌ جداً في الثقافة الأميركية يتمثل في فضيحة تجاهل ترامب لتحذيرات المنظومة الأمنية (منذ سنة) بأن روسيا/ بوتين قدمت مكافآت لمقاتلي طالبان لقتل الجنود الأميركان وغيرهم من جنود (التحالف) هناك. وللمرة الألف، لم يجرؤ ترامب على أن يقول كلمة واحدة ضد بوتين، لا وقتَها، ولا حتى الآن، بعد أسابيع من انفجار الفضيحة.

هذا خطٌ أحمر في غاية الخطورة ليس فقط للمجتمع والإعلام وإنما لـ (المؤسسة / Establishmen) تنتهي عنده كل المماحكات الحزبية والمصالح الشخصية الممكن تمريرها، مهما حدث للأميركان المواطنين! وقد بدا، لوهلة، أن هذا الأمر يتفاعل بسرعة وراء الأبواب المُغلقة بحثاً عن حلٍ يُنقذ البلاد، ولكن (يحفظ ماء وجه الرئاسة الأميركية) وليس (الرئيس) تحديداً. فالأول هو الأهم بشكلٍ حاسم حسب القواعد الثابتة. لكن ما حصل عملياً هو أن ترامب أغرق البلاد بفضائح أكبر، بحيث نُسيَ الموضوع.

لكن أهمّ ما يجري في أميركا هذه الأيام، وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل في الحلقات القادمة، يكمن في السيناريوهات المُتداولة بقوة في أوساط الإدارة عما يُسمى الخطة (ب)، والتي تقضي باعتبار الانتخابات مزورةً في حال خسارة ترامب للانتخابات، ومقاومة النتيجة بكل طريقة، باعتبار أن الرجل مستعدٌ لفعل أي شيءٍ في سبيل بقائه في السلطة. وقد قال أمس (الإثنين)، بكل وضوح، لمناصريه في اجتماعٍ انتخابي في ولاية ويسكانسِن: "الطريقة الوحيدة لنعرف أن الانتخابات القادمة غيرُ مزوّرة هي أن أفوز بالرئاسة"!

والمشكلة أنه نجحَ بعد سنواتٍ من طرد وإقالة وتغيير المسؤولين في تشكيل إدارةٍ تعمل بطريقة عصابات المافيا ستُعينهُ على أداء المهمة. وكان تركيزهُ تحديداً على ما يُسمى عادةً الوزارات السيادية، حيث يُعتبر حالياً وُزراء الخارجية والعدل والدفاع والمالية والقائم بأعمال وزير الأمن القومي، ومعهم وزير الصحة ووزيرة المواصلات، من أشدِّ الشخصيات ولاءً له، وللمفارقة من أكثرهم فساداً. يكفي أن نعلم أن ترامب قام خلال الشهرين الماضيين فقط بطرد (المفتش العام) في وزارات الخارجية والأمن الوطني والدفاع والصحة والمواصلات، علماً أن الشخص الذي يحتلُّ هذا المنصب في كل وزارة هو الوحيد الذي يملك استقلاليةً كاملةً عن الوزير، وليسوا مسؤولين إلا أمام الرئيس الأميركي مباشرةً، وأن جميع المُقالين كانوا يقومون بتحقيقاتٍ في ممارسات وزرائهم، توقفت جميعها بطردهم!

هذا، بكل معنى الكلمة، غيضٌ من فيض أخبارٍ شهدتها أميركا خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط.

من هنا، لايمكن التفريق كثيراً في أي تحليل للانتخابات الأميركية، كما سيظهر في هذه السلسة الخاصة بـ (تلفزيون سوريا)، بين الإثارة التي تُشبه أحداث أفلام (الأكشن) الأميركية، وبين المعرفة والعلم بطبيعة النظام والفكر السياسي الأميركيين، ونوعية التحولات التي حصلت في المجتمع الأميركي اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وإثنياً، وكيفية تأثيرها في النظام السياسي الأميركي وتأثرها به.

سباق الرئاسة الأميركي: مئات المرشحين وعشرات الأحزاب

صحيحٌ أن المواطن العربي يسمع ويقرأ عن بضعة أسماء من المرشحين للانتخابات الأميركية، لكن الحقيقة أن هناك مئات من الذين رشحوا أنفسهم لسباق الرئاسة في هذا البلد (هذا العام تحديداً، أعلنت لجنة الانتخابات الفيدرالية FEC أن أكثر 1200 أميركي رشحوا أنفسهم للانتخابات سواء بشكلٍ مستقل أو عن مئات الأحزاب والجماعات الصغيرة والهامشية الموجودة رسمياً، والتي يُعتبر تسجيلها من أسهل الأمور في هذه البلاد).

فبعكس ماهو شائع، في العالم العربي تحديداً، بل ربما في العالم بأسره، لاتقتصر الساحة السياسية الأميركية (نظرياً) على الحزبين الكبيرين المعروفين: الجمهوري والديمقراطي، كما أن انتخابات الرئاسة الأميركية ليست محصورةً، نظرياً ومن ناحية الترشيح والمشاركة في السباق، في مُرشَّحي الحزبين. فالأحزاب منتشرةٌ بشكلٍ كبير في أميركا، بعض هذه الأحزاب إقليمي وله علاقة بمفهوم الاستقلال مثل حزب الاستقلال في نيويورك وحزب الاستقلال في آلاسكا وحزب الاستقلال في كنيتيكيت. وهناك أحزاب لها علاقة ببعض القيم مثل الحزب التقدمي في ولاية فيرمونت وحزب العدالة الأميركي وحزب الحرية الأميركي وحزب المتحررين الأميركي، أما بعضها الآخر فله علاقة بقضايا محددة مثل حزب الخضر وحزب العائلات العاملة، مروراً بحزب الماريغوانا الأميركي، وليس انتهاءً بالحزب الشيوعي الأميركي وحفنة متنوعة من الأحزاب الاشتراكية، إلى غيرها من الأحزاب الأخرى.

أما في هذه الدورة الانتخابية فإن المرشحين الثلاثة الأكثر بروزاً للأحزاب الثلاثة الأكبر بعد الديمقراطيين والجمهوريين فإنهم على التوالي: هوي هوكينز Howie Hawkins عن حزب الخضر، وهو قائدٌ نقابي وناشطٌ بيئي من مؤسسي الحزب. ثم جو جورغنسِن Jo Jorgensen عن الحزب التحرري Libertarian Party، وهي مثقفةٌ أكاديمية وناشطةٌ سياسية مخضرمة. وأخيراً، هناك دون بلانكِنشيب Don Blankenship المرشح عن الحزب الدستوري، وإن كان من المفارقات أنه، وهو رجل أعمال، تمت إدانته قضائياً بالفساد عام 2015 في قضايا تتعلق بالصحة والسلامة في صناعة المناجم والتعدين التي يعملُ فيها!

كلمةٌ أخيرة

سندخلُ، وندخل معنا القراء العرب في هذا المنبر، على مدى حلقاتٍ نأمل أن تكون بمثابة سبقٍ ليس صحفياً فقط، بل فكرياً وتثقيفياً، بتفاصيل أكثر وبتحليلٍ مُسهب في عُمقِ الانتخابات الأميركية بأحداثها ومُجريات الأمور فيها، ونستقرئ دلالات وقائعها ونتائجها على الواقع الأميركي أولاً، وبالتالي على واقع العرب والمسلمين فيها وفي بلادهم الأصلية، وصولاً إلى درجة تأثيرها الكبير الممكن في تشكيل العالم والنظام السياسي والاقتصادي والاستراتيجي الدولي الذي لا يبدو ثمة مفرٌ من انبثاقه بعد رئاسة ترامب وما صاحبها من أزمات وكوارث عالمية صحية واقتصادية، لا مجال معها لاستمرار الأساليب والأطر الإدارية والدستورية والقانونية السابقة، بل ربما لجوهر المنظومة الديمقراطية التي يبدو الإجماع ظاهراً على ضرورة البحث في تعديلها، بدرجةٍ كبيرة وفي كثيرٍ من المجالات.

والأرجح أن يرى القارئ العربي معنا مصداق مقولة الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغان، حين قال: "لقد قيل دوماً أن السياسة هي ثاني أقدم مهنة في العالم. لكنني تعلمت [مع الأيام] أن ثمة تشابُهاً هائلاً بينها وبين أقدمِ مهنة".. قد يبدو التشبيه قاسياً بعض الشيء، لكن رصداً شاملاً وعميقاً لما يحصل في أميركا، كما سنفعل في الحلقات القادمة، ربما يوضحُ بأن التشبيه المذكور مُخففٌ نهايةَ المطاف!