مسيّرات حزب الله وطائرات إسرائيل وحروب ما بعد فيينا

2022.02.21 | 06:03 دمشق

20200806145559afpp-afp_1wb932.h-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

تقول الأجواء المرافقة لمفاوضات إيران مع الغرب إنّ الإعلان عن إنجاز الاتفاق النوويّ بات وشيكاً، كما تكشف مسوّداته المسرّبة عن صيغة لا تراعي هموم حلفاء واشنطن ومخاوفهم المتعلقة بمواضيع الحدّ من انتشار الميليشيات ومسائل الصّواريخ الدّقيقة والبعيدة المدى.

أميركا الجديدة العازمة على عدم التّدخل تخيف الجميع، وتفرض عليهم إعادة إنتاج سياساتهم وخطاباتهم وتنظيم معاركهم وفق منطق يعتبر أنه ليس لأميركا حلفاء ولا أعداء، وأنّ التحالف معها لا يستوجب الحماية كما أنّ العداء لا يمنع التفاوض وتوقيع الاتفاقات.

تنظر إيران وميليشياتها المنتشرة في عموم المنطقة إلى الاتفاق الوشيك بوصفه انتصاراً موصوفاً لا شك فيه، وتعتبر أنه سيمكّن نفوذها كما سيعيد فتح مسارب التمويل المغلقة من دون حساب.

إسرائيل تقارب الموضوع بوصفه ضوءاً أخضر منحته أميركا لإيران للاستمرار في تمكين قدراتها التي ستتيح لها قريبا التوصل إلى صنع سلاح نووي، كما سيتيح لها تفعيل نشاطاتها في كلّ المنطقة وتهديد أمنها.

إرسال طائرة مسيّرة لاختراق أجواء إسرائيل كان إعلاناً عن فتح باب التّفاوض بالتّصعيد

من هنا ترتسم في المنطقة عموماً وفي لبنان خصوصاً معالم الحروب الّتي ستلي اتفاق فيينا وهي حروب تحديد المواقع وتمكين النفوذ. ليس مستغرباً إعلان حسن نصر الله أنّ حزبه بات قادراً على صناعة المسيّرات في الدّاخل اللّبناني وكذلك تحويل صواريخه إلى صواريخ دقيقة.

يقول توقيت التّصريح إنّ الهدف منه هو التمهيد لمرحلة شرسة وتصعيديّة استعداداً للتعامل مع مفاعيل الاتفاق النووي.

إرسال طائرة مسيّرة لاختراق أجواء إسرائيل كان إعلاناً عن فتح باب التفاوض بالتصعيد.

نجاح المسيّرة في تحقيق أهدافها والعودة إلى قواعدها سالمة كما صرّح الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي حين قال "لم ننجح في اعتراض الطّائرة المسيّرة الآتية من لبنان، وفقدنا أيّ أثر لها" ليس إعلان هزيمة أمنيّة وتقديم هديّة مجانيّة لدعاية حزب الله، بل رسالة تتوجّه قبل كل شيء إلى الأميركيين وتطالبهم بتمكين الدفاعات الإسرائيليّة، كما تهدّد من ناحية أخرى بردّ إسرائيليّ يوازي خطورة الاختراق.

تحليق طائرات حربيّة فوق بيروت إثر هذه الحادثة يمهّد لمرحلة أعلى من التصعيد.

منطق حزب الله يعكس حاليّاً محاولته فصل نفسه عن وضع البلد عموماً، والطّلب من العالم أن يتحدّث معه من موقع امتلاكه لتكنولوجيا حديثة ومتطوّرة، في حين يقبع البلد اقتصاديّاً وأمنيّاً وسياسيّاً خارج الزمن.

يسعى الحزب في هذه اللّحظة إلى تقديم نفسه بوصفه ممثّلاً للحديث من بوابة التكنولوجيا الحربيّة الفائقة، وبذلك يقيم فصلاً حادّاً بينه وبين كلّ مكوّنات البلد وطوائفه، ويعلن نفسه مفاوضاً وحيداً للعالم ومن موقع النديّة لا بل التفوّق.

تلك القدرة على صناعة التفوق من قلب الأنفاق تجعله عصيّاً على السّقوط كما يحاول الترويج، وتجعل من عالم الأنفاق الّذي يسكنه عنواناً وحيداً للبلد.

الطائرات التي حلقت فوق العاصمة وأرعبت أهلها ومن ورائهم اللّبنانيّين لم تعبر فوق عالمه ولا أثّرت على زمنه. إذا كان اللّبنانيون قد عادوا بسببها إلى لحظة الاجتياح الإسرائيليّ عام 1982 فإنّ هذا التّوقيت هو زمنهم وزمن البلاد الّتي تطفو فوق سطح الأنفاق، ولكنّ حزب الله هو الوحيد الّذي يمكنه القول إنّه يحيا في اللحظة الفعليّة ويقودها وينتسب إليها.

لم يكن التساهل في موضوع ترسيم الحدود سوى أحد علامات بروز هذا النزوع، وكذلك يبدو مشروع استجلاب حرب إسرائيليّة في هذه المرحلة الّتي تشهد خلافاً حاداً في النظر إلى الأمور بين الإسرائيليّين والأميركيّين.

في حال قررت إسرائيل الدخول في حرب ضد الحزب وإيران فإنها ستفعل ذلك على حسابها. الدّعم الأميركي المطلق اختفى وحلت مكانه سياسة لا تنظر إلى الأمور بالعين الإسرائيليّة الضّيقة، ولكن من خلال رؤية تحضر فيها المصالح الأميركيّة الكبرى وصراعاتها التي لا تحضر فيها إسرائيل كأولوية قصوى وحاسمة.

ما يجري بالنسبة للاتفاق يلامس الخطوط الحمر الإسرائيليّة فهي تجد نفسها أمام احتمال إيران نوويّة وكذلك في مرمى مسيّرات الحزب وصواريخه الدّقيقة، ما يعني أن خوض مغامرة عسكريّة من دون نيل موافقة أميركيّة يبدو أقلّ خطراً من ترك الأمور تجري وفق هذا المسار الكارثي. كلّ ما يصدر عنها في هذه المرحلة محكوم بكونه تجهيزاً للحرب ومحاولة حشد الدّعم المناسب لها.

حزب الله من جهته يعرف أنّ أيّ حرب إسرائيليّة من شأنها التسبب بدمار شامل يطول بيئته بشكل خاص ويصيب البلد بشكل عام، ولكنه يعلم ويراهن، على غرار رهاناته في كلّ الحروب الّتي سبق أن افتعلها، على أن بقاء جسمه العسكريّ ومصانع صواريخه خارج الدمار الشامل إنما يعني انتصاراً ضخماً له، سيضعه في واجهة التفاوض وسيتيح له الإمساك المشرعن بالبلد.

تدار حروب ما بعد الاتفاق النووي بطريقة لا تبالي بمصالح الشعوب ولا بهموم الناس ومشكلاتها

يلعب الحزب ورقة الحرب بالتوازي مع فتح معركة الانتخابات النيابيّة ليقول بوضوح إنه الطرف الشّرعيّ الّذي لا يمكن إدارة البلد أو التفاوض بشأنه إلا من خلاله، مستفيداً من ذلك من سياسة عدم السّماح بالانهيار الكامل الّذي تنتهجه دول الغرب في البلد في تناقض مع رؤى عربيّة، تعتبر أنّ وصول البلد إلى مرحلة الانهيار الفعليّ والجديّ هو الوسيلة الأنجع لمحاربته.

تدار حروب ما بعد الاتفاق النووي بطريقة لا تبالي بمصالح الشعوب ولا بهموم الناس ومشكلاتها. واللافت أنّ الحزب يبدي قدرة على قراءة هذه التحولات وطبيعتها أكثر من كلّ باقي الأطراف الّذين ما زالوا يعتقدون أنه من الممكن مخاطبة الرّأي العامّ الدّولي عبر منطق المجتمع المدني، وفكرة إيصال وجوه جديدة إلى البرلمان بينما تكشف الوقائع عن قلة اكتراث بكلّ الشّأن اللّبناني.

ليس الإصرار على إجراء الانتخابات اهتماماً بل لا يعدو كونه تماشياً مع سياقات لا تتعلق بالبلد في حد ذاته، بل بما يجري عبره وحوله.

حزب الله يدخل المرحلة المقبلة بالطّائرات المسيّرة والصّواريخ الدّقيقة وبوعود تدفق الأموال إليه، ويراهن على حرب لا يهم أثرها على بلد نجح على الرغم من الانفصال التامّ عنه في النطق باسمه على جثث الجميع. إنه عالَم حروب ما بعد فيينا الّذي ينفجر في وجه المنطقة منذراً بخراب كبير قبل أن ترسم التسويات الكبرى الخرائط المرّة الجديدة.