مراسيم الأسد.. حقن بوتوكس منتهية الصلاحية

2023.09.16 | 05:41 دمشق

مراسيم الأسد.. حقن بوتوكس منتهية الصلاحية
+A
حجم الخط
-A

كلما وجد بشار الأسد وقت فراغ، يقرر أن يتسلى بإصدار المراسيم، وبما أن وقت فراغ الرئيس كبير، أو بشكل أدق، بما أن وقت الرئيس بالكامل هو عبارة عن وقت فراغ، ولا سيما بعد أن سلّم صلاحياته للروس والإيرانيين ولم تعد لوجوده ضرورة سوى شرعنة الاحتلالات التي لا تتطلب الكثير من الوقت، فإنه يلجأ لإصدار المراسيم، لمَ لا وهو لا يجد من يحاسبه أو يتابع مراسيمه أو يعترض عليها أو يناقشها أو يراقب تنفيذها.

وكما يتمتع الرئيس بصلاحية إصدار المراسيم فهو يتمتع أيضاً بصلاحية القفز عليها أو إبطال تنفيذها أو تجميدها أو تطبيقها في الوقت الذي يحدده وعلى الفئة التي يريد.

لا يجد الرئيس ما يفعله -باستثناء أوامر القتل والاعتقالات التي يصدرها- سوى بعض اللقاءات مع وفود دول مغمورة، وأخرى مترهلة لا قيمة لها قادمة من برلمانات دول عربية أو أحزاب عربية هامشية تسعى لتسويق ذاتها، ووفود قادمة من المغتربات تبحث عن استثمارات في الخراب السوري، وبعد أن ينتهي الرئيس من تناول المرطبات مع ضيوفه، تتملكه حالة الضجر، ولا يجد وسيلة لقضاء الوقت إلا بإصدار المراسيم.

يصدر الأسد مراسيمه للإعلان عن وجوده، لتذكير السوريين الواقعين تحت سيطرته بأنه لا يزال فاعلاً وقادراً على التحكم بحياتهم، وربما لتعويض نقص الصلاحيات التي تبقت لديه، يصدر المراسيم بكرم وسخاء في كثير من الأحيان، فهو يعرف أنها مجرد حبر على ورق، وأن ما يرسمه ليس ملزماً له ولا لحكومته فالمهم بالنسبة له أن يرسم، أما ماذا يرسم وكيف ولماذا، فهي أسئلة لا ترد على ذهن الرئيس المعزول والمتجانس ومنتهي الصلاحية.

يبدو ما يرسمه الرئيس مخصصاً للتصدير فقط، فمراسيمه لا تختلف عن سجائر الحمراء التي كانت تصنع بعناية ليتم بيعها للخارج، فيما يخصص التبغ الرديء للشعب السوري

آخر تلك المراسيم -على الأقل إلى وقت كتابة هذه المقالة- كان ذلك المتعلق بإنهاء المحاكم الميدانية العسكرية، وهو مرسوم مضحك لشدة تناقضه مع الواقع، حيث لا يزال قانون الحذاء العسكري هو المرجعية الوحيدة التي يحتكم إليها الرئيس وجيشه وأتباعه، ولا يزال كل ضباط الجيش والمخابرات بل وكل عنصر أمن يتمتع بصلاحية قتل السوريين الذين يشك بمحبتهم وولائهم للرئيس دون محاكمة ودون دليل ودون أي مبرر، وقبل وصول قضية الضحية إلى القضاء، إن افترضنا أن ثمة قضاء في سوريا الأسد.

هنا يبدو ما يرسمه الرئيس مخصصاً للتصدير فقط، فمراسيمه لا تختلف عن سجائر الحمراء التي كانت تصنع بعناية ليتم بيعها للخارج، فيما يخصص التبغ الرديء للشعب السوري، وهذا هو حال تلك المراسيم، خطاب للخارج يوحي بأن ثمة بلداً وقانوناً في سوريا، أما الداخل فله التبغ المخلوط بنشارة الخشب وبقايا الصديد الذي يملأ جوانب المصنع.

من المراسيم التي أصبحت ثابتة ومتكررة ودورية، يمكن أن نشير إلى مراسيم العفو الرئاسي التي أصدر الأسد مجموعة منها رغم ما تحمله من إهانة للسوريين وإهانة لفكرة العدالة ذاتها، إنه الإجراء الأكثر صفاقة أن يعفو القاتل عن الضحية والأكثر وقاحة ووحشية حينما يكون مرسوم العفو فخاً لاصطياد المصدقين والانتقام منهم، فمعظم من وثقوا بمراسيم العفو وأجروا مصالحات مع العصابة، تم زجهم في المعتقلات من جديد أو قتلهم تحت التعذيب أو التخلص منهم بطريقة أو أخرى، وهنا يفقد المرسوم مضمونه ويكون بلا معنى مع استمرار العمل به وكأنه أمر حقيقي.

وعلى ذات المقاس تأتي المراسيم الأخرى، كمراسيم زيادة الرواتب والأجور، حيث يستوفي النظام فرق تلك الزيادة قبل صرفها لمستحقيها، بل ويخرج المواطن خاسراً، وهنا يحمل المرسوم عكس مضمونه وأهدافه بل وينعكس أذى على المواطنين الذين يشملهم.

كما ويحتل مرسوم المنح الرئاسية مكانة عالية في عالم الصفاقة، فكيف يسمح الرئيس لنفسه أن يكون مانحاً وصاحب مكرمة وفضل على الشعب وهو يدفع لهم من أموالهم مبلغاً أقل من أن يستحق الشكر عليه حتى وإن دفعه من جيبه الخاص، ثم لا يتردد الأسد أن ينتظر الشكر والعرفان بالجميل، ينتظر التمجيد والثناء كرد فعل على إهانة المواطنين من خلال إشهار الرئيس نفسه كمتحكم في الاقتصاد وفي لقمة عيش المواطن.

الأمر ذاته ينطبق على مراسيم تسريح دفعات من العسكريين، أو إنهاء الاحتفاظ بالاحتياطيين منهم، إذ يحول الرئيس حق المواطنين إلى منحة ومكرمة وفضل، هذا إن طبقت تلك المراسيم، لأن علاقة الرئيس بمرسومه تنتهي بعد إصداره، أما التنفيذ فيظل رهنا بذات الأيدي التي تستفيد من تطبيق المرسوم أو تعطيله وتحوله إلى مجال للتكسب والارتزاق.

وتأتي المراسيم الخاصة بالدراسة الجامعية والدورات الاستثنائية لتعلن حقيقة هذا النظام الذي يريد الهيمنة حتى على العملية التعليمية وإخضاعها لإرادته ومزاجه وأوامره ويحولها أداة للابتزاز السياسي من خلال وضع الجامعات تحت تصرف الأجهزة الأمنية لتكون العملية التعليمية برمتها أداة ترويج للرئيس، وليذهب العلم إلى الجحيم..

الهدف من كل تلك المراسيم إذن ليس خدمة الشعب أو تسهيل الحياة عليه، بل تأكيد سلطة النظام على كل شيء، فهو يوظف مفهوم الدولة لخدمة الرئيس ويستعمل المواطن وهمومه للترويج للرئيس ومحاولة زيادة الثقة فيه وزيادة شعبيته، وأيضاً من أجل التصدير الخارجي، وليس مهماً بعدها أن يتم تنفيذ المرسوم أو الالتزام بمضمونه أو اعتماده كمرجعية أو إلغاؤه أو نسيانه أو تجاهله.

ما يجدر التوقف عنده في هذا السياق أن هذه المراسيم تدل بشكل قطعي على غياب القانون بالمطلق وحلول السلطة مكان أي إجراء قانوني، وهي تعطي صورة معاكسة لتلك التي يريد النظام تثبيتها، لأنها تؤكد غياب أي حالة قانونية أو حقوقية وانحصار الحكم في السلطة السياسية بعيداً عن أي دور للمؤسسات المعنية، فالرئيس هو المؤسسات كلها، وهو المرجع المالي والقضائي والاقتصادي والاجتماعي، وهو مفتاح كل شيء في البلد، بل هو البلد ذاته.

من ناحية أخرى فإن تلك المراسيم الفوقية تدل على غباء المؤسسة الرئاسية التي لا تدرك أن الصورة التي تروجها عن نفسها من خلال تلك المراسيم هي أكبر دليل على الديكتاتورية التي يحاول النظام نفيها، فضلاً عن تكريسها لمنطق العصابة والمافيا وتدليلها على الغياب الكلي لمنطق الدولة..

مراسيم الرئيس عبارة عن ثوب فضفاض يناسب مقاسات الفاسدين من أتباعه والقائمين على مفاصل دولته، إنها مساحة للتكسب وتفسير المضامين على قدّ المصالح، فالرئيس يرسم لهؤلاء المتكسبين ويهدف إلى فتح أبواب الرزق لهم أما أصحاب الاحتياج الحقيقي، فهؤلاء أقل من أن يتنازل الرئيس ويفكر في همومهم.

ثمة الكثير من المراسيم تتعلق بالصناعة والزراعة والسياحة وكل مرافق الحياة الأخرى، وكلها تنتمي إلى ذات المرجعية، فالرئيس الذي لا يتردد في حرق وطنه وقتل شعبه وتشريده واعتقاله وإلقاء البراميل المتفجرة فوق رؤوس المدنيين لا يمكن أن تكون مراسيمه لصالح المواطن ولا يمكن أن يفكر بالمواطن، فهو يستخدم الوطن والمواطن معاً كحقيبة دبلوماسية لا تخضع للتفتيش فلا يتردد بملئها بالكبتاغون والمتفجرات ليمارس تجارته المحببة وتكون وسيلته للتكسب والمتاجرة والخداع، وهل يمتلك الأسد اليوم غير تلك البضاعة؟

إن أفضل مرسوم يمكن للأسد أن يصدره هو مرسوم التنحي، وهو المرسوم الوحيد الذي ينتظره الشعب السوري، ولكنه مرسوم يحتاج إلى قليل من الضمير، وبعض الوطنية وشيء من الشجاعة، وتلك أمور لا تتوفر لدى الأسد

يصدر الأسد مرسوماً بزيادة الرواتب، فيجوع المواطنون أكثر، يصدر مراسيم تخص الصناعة فتتراجع الصناعة، ويصدر مرسوم إنهاء المحاكم الميدانية فيعود جنوده ومرتزقته لإطلاق النار على المتظاهرين -كما حدث أمس في السويداء- كسلوك يوضح بما لا يقبل مجالاً للشك عدم جدوى كل تلك المراسيم وإعلانها كمحاولة تجميلية قبيحة للجسد المترهل..

إن أفضل مرسوم يمكن للأسد أن يصدره هو مرسوم التنحي، وهو المرسوم الوحيد الذي ينتظره الشعب السوري، ولكنه مرسوم يحتاج إلى قليل من الضمير، وبعض الوطنية وشيء من الشجاعة، وتلك أمور لا تتوفر لدى الأسد، لا تتوفر في طبيعته ولا عند المحيطين به، ولم يقم يوماً بمحاولة استعارتها أو شرائها أو التفكير في أسباب نقصانها.

يعي الأسد جيداً أن مراسيمه ليست أكثر من حقن بوتوكس في شفاه الدولة العجوز، غير أنه يستكثر على الدولة الشمطاء التي يحكمها أن يحقنها بمادة أصلية، فيستعمل حقن بوتوكس منتهية الصلاحية، وربما كانت من تلك التي تم تعفيشها من ضمن ما تم تعفيشه على مدار السنوات السابقة.

إن من غيّر الدستور ليغتصب السلطة لا بد أن تكون مراسيمه باطلة وغير شرعية تماماً مثل وجوده اللاشرعي.