مجاعة أوكرانيا.. إحدى جرائم ستالين

2022.03.28 | 06:59 دمشق

capture_19.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع بداية شهر آذار رصدت الأقمار الصناعية الأميركية قافلة عسكرية، يزيد طولها على ستين كيلومترا، شمال العاصمة كييف، وتمتد على طول الطريق بين مطار أنتونوف ومدينة بريبيرسك، التي تبعد ثمانية عشر كيلومترا عن العاصمة كييف نحو الشمال. واليوم بعد مضي أكثر من شهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، لا يعرف أحد ماذا حل بهذا الطابور الطويل المدجج بالسلاح. تعدّ روسيا من أكبر القوى العسكرية على ظهر الكوكب، بحيث تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة التقليدية، وتحارب بها على الجبهة الأوكرانية، ورغم مرور كل هذا الوقت على بدء الهجوم الروسي، فإن أياً من المدن الكبرى لم تسقط، وتتناقل تقارير المراسلين الحربيين رقماً يفوق العشرة آلاف قتيل روسي على الأرض الأوكرانية. يمكن أن تدل هذه المعطيات على سوء التخطيط وسوء الإدارة، وعدم الاستفادة التعبوية من الكفاءة الروسية في السيطرة على أي شيء، وما زال الرئيس الأوكراني يقفز عبر الشاشات ليلقي خطاباته ضد روسيا، في حين أن المفاوضات التي بدأت بعد ثلاثة أيام من الغزو يكتنفها غموض أكبر من الغموض الذي حل بالطابور العسكري الطويل شمال كييف.

لم يأتِ موسم 1933 وفيا مع مزارعي الدولة الأوكرانيين، فقد كان موسما شحيحا تناقص فيه الإنتاج إلى الحدود الدنيا، مع تكاسل مقصود من مزارعي الدولة الذين لم يتناسبوا مع طرق العمل الشيوعية التي ابتكرها ستالين، فتمت مصادرة كل الإنتاج القليل

عندما اندلعت الثورة في روسيا عام 1917، وبدأ ما يشبه التفكك يصيب الإمبراطورية الروسية، ظنت أوكرانيا بأنها ستنعم أخيرا باستقلال مريح، بعد قرون من وقوعها تحت السيطرة الروسية، ولكن تبدد الحلم سريعا، بإعادة الجيش الأحمر الممتلكات القيصرية القديمة، ومنها القسم الأكبر من شرق أوكرانيا، وبات عليها أن تنسى أحلامها القومية وتستسلم للحضن الشيوعي الذي قدمه لينين. مارست أوكرانيا القليل من الثقافة الخاصة المنفصلة عن التراث الروسي، ولكن سرعان ما جاء ستالين ومعه قبضة سوفييتية حديدية أراد فرضها بقوة، خصوصا على أوكرانيا، فأمر بتطبيق نظام المزارع الجماعية بحسب النظام الشيوعي على السهوب الواسعة الصالحة لزارعة القمح المسماة أوكرانيا، واعتقل كل من كان يملك القليل من الأراضي التي تم تصنيف أصحابها كأعداء للدولة، ومن نجا منهم من القتل تم شحنه للعمل في مناجم سيبيريا، ففقدت أوكرانيا طبقتها المنتجة، وسلّمت الأرض إلى من بقي من الشعب الأوكراني ليعمل كموظف عند الدولة، وتم تحديد كميات يجب على الفلاحين تسليمها للدولة التي كانت تأخذها ليستهلكها السكان في روسيا! لم تكن الحصص المفروضة على الأراضي، عادلة، بل كانت محددة بالطريقة الستالينية ذاتها المحملة بالقسوة والعنف.

لم يأتِ موسم 1933 وفيا مع مزارعي الدولة الأوكرانيين، فقد كان موسما شحيحا تناقص فيه الإنتاج إلى الحدود الدنيا، مع تكاسل مقصود من مزارعي الدولة الذين لم يتناسبوا مع طرق العمل الشيوعية التي ابتكرها ستالين، فتمت مصادرة كل الإنتاج القليل، ولتحصيل الكمية المطلوبة تمت الاستعانة بمنتسبي الحزب الشيوعي المتحمسين، وبعناصر من الأمن والجيش الذين صادروا من الأوكرانيين كل شيء، ولم يوفروا حتى الملاعق والسكاكين المستعملة في المطابخ. حاول الأوكرانيون الاستعانة بالخارج ولكن ستالين أحكم طوقا حول أوكرانيا ومنع أي شيء من الدخول، وتحولت أوكرانيا إلى أكبر سجن على سطح الأرض، مع انتشار واسع للمجاعة في القرى والمدن الصغيرة ومزارع الدولة المهجورة، وسجلت في كل يوم قرابة خمسة وعشرين ألف وفاة، لم تتوقف طوال ربيع وصيف عام 1933، ويقول بعض المتشائمين إن الضحايا وصلوا إلى سبعة ملايين، وهناك من يقول بأنهم كانوا خمسة ملايين فقط.. أزهق ستالين كل تلك الأرواح من أجل النظرية الشيوعية وإمعانا في تخطيط الدولة المركزية، وضمان أكبر قدر من التعتيم، لم يدَعْ أحدا يعرف ماذا يحدث في أوكرانيا، واستمر الصمت حول هذه المذبحة الجماعية، حتى وصل ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم، حيث أثيرت بعض الأقاويل حولها، ولكن بعد استقلال أوكرانيا عام 1991، جرى الحديث عنها على نطاق واسع، وانقسمت الآراء حول سبب المجاعة، فأرجعها قسم إلى سوء الموسم وسوء الإدارة، وقسم آخر قال بأنها جريمة قتل جماعي مخطط لها على مستوى الدولة جرت برعاية ستالين.

كان ستالين بالفعل يحتقر الجنس البشري ويقدس نظريات ماركس، وبناء على هذا الفهم جرت في عهده عمليات قتل وتهجير، عبّر فيها عن رأيه الصريح بالبشر، وقدم براهين على إخلاصه للفكر الشيوعي

كان ستالين بالفعل يحتقر الجنس البشري ويقدس نظريات ماركس، وبناء على هذا الفهم جرت في عهده عمليات قتل وتهجير، عبّر فيها عن رأيه الصريح بالبشر، وقدم براهين على إخلاصه للفكر الشيوعي، الذي طبقه بحسب ما يؤمن به من اللجوء لأساليب العنف والقهر، وصولا إلى مجاعة عام 1933 وهي واحدة من تلك التطبيقات الغبية التي آمن فيها ستالين وفرضها بكل بلادة وبرود على الأوكرانيين، ويمكن ببساطة وصفها بسوء التخطيط الذي أودى بملايين من الناس، مع خسارة فادحة لموسم كامل، وهو التخطيط السيئ ذاته الذي تتوارثه أجيال القيادة الروسية وصولا إلى لحظة بوتين الذي خطط ونفذ هجومه على أوكرانيا، وأضاع رتله العسكري الطويل في وحول السهول الواسعة المزروعة بالقمح.

كلمات مفتاحية