مآلات الجهادية السورية

2023.07.03 | 06:55 دمشق

مآلات الجهادية السورية
+A
حجم الخط
-A

قبل ثمانية أسابيع أصدرت «حكومة الإنقاذ السورية»، وهي الذراع المدنية لحكم «هيئة تحرير الشام» في إدلب، نشرة دورية بعنوان «الجريدة الرسمية»، تهدف إلى توثيق المراسيم والقوانين والأنظمة والقرارات الصادرة عن مؤسسات هذه الحكومة.

تعدّ هذه الخطوة، غير المسبوقة في منافسة «الجريدة الرسمية» التي ما تزال تصدر في دمشق منذ أكثر من مئة عام، خطوة نموذجية في إطار السعي الحثيث لزعيم «الهيئة»، أبي محمد الجولاني، لتقديم نفسه كصاحب مشروع إداري منضبط وناجح في مناطق سيطرته، بعد أن هدأت معاركه مع النظام إثر هدنة آذار 2020.

لكن المغامرة الصغيرة التي يخوضها قائد «الهيئة» بإصدار هذه الجريدة، وما تتطلبه عادة من شفافية، تصطدم بالمعضلة الأساسية التي تواجهه في تحويل جماعته من تنظيم سري، مجاهد و«إرهابي»، إلى دويلة. فمن المعروف أن «الجريدة الرسمية»، «الأصلية»، مصدر غنيّ يستفيد منه المعارضون في رصد الشركات التي يؤسسها رجال النظام، ونساؤهم وأبناؤهم، ومراقبة خروج بعضهم من مظلة الحاشية المحمية بإلقاء الحجز الاحتياطي على أموالهم.

ليست المرة الأولى التي تغلب فيها شهوة السلطة، وانتحال رموز الدولة وإكسسواراتها، على قائد «الهيئة» الطموح والمؤمن بالمظاهر

ومن الجليّ أن الشفافية لن تناسب الحكم الهجين الذي يقيمه الجولاني، حيث تسيطر «الهيئة» على «الحكومة» بغلالة واهنة، ويسيطر أمراؤها على المفاصل المهمة في اقتصاد القطاع الخاص الذي يحوزونه بالملكية التامة أو بالشراكة، لصالحهم أو لصالح «الهيئة». ومن الطبيعي أن كشف هذه الملكيات، مع الأسماء الحقيقية لأصحابها الذين قد يصنفون كإرهابيين أو داعمين، يناقض عالم الظل الذي يمسك الجولاني بمفاصله من وراء واجهة بيضاء. غير أنها ليست المرة الأولى التي تغلب فيها شهوة السلطة، وانتحال رموز الدولة وإكسسواراتها، على قائد «الهيئة» الطموح والمؤمن بالمظاهر.

وهذا بينما كان إخوانه السابقون في داعش يسيرون في اتجاه معاكس بتفكك «الدولة الإسلامية»، التي تفاخروا بقيامها سنة 2014، إلى عصابات وحشية متفاوتة الحجم كما تدل الأعداد الأخيرة من صحيفة «النبأ» الصادرة عن «ديوان الإعلام المركزي»، في هذه الأسابيع الثمانية نفسها.

ففي افتتاحية الأول منها، الذي يحمل الرقم 390، يستبطن التنظيم تراجع أعداده بالإعلاء من شأن «القلة المؤمنة» السائرة في الطريق وحدها بعد أن تتمايز الصفوف و«يتساقط المتساقطون». مؤكداً أن «الكثرة مذمومة في شريعة ربنا» في حين مدح الله القلة ووعدها بالنصر، ولا سيما في آخر الزمان حين لا يجد الغرباء أعواناً على الحق فيشقون طريقهم وسط «الظلام الدامس» وكثرة المحاربين لهم.

والحق أن التنظيم لا يقصّر في استعداء الجميع كما يتبين من صحيفته خلال الشهرين الأخيرين؛ إذ يستعدي جيوشاً «صليبية» في أفريقيا، و«مرتدة» في باكستان، و«ميليشيا» طالبان والقاعدة، حكومة «رافضية» في العراق، و«نصيرية» في سوريا، و«ملاحدة» من الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية «قسد».

وفي حين تتقدم أخبار ولاياته السمراء وتحتل الغلاف، تشغل أخبار «ولاية الشام» (سوريا) مساحة صغيرة لقلة عدد العمليات فيها وضآلة حجم الاشتباكات. وتكاد تنحصر في هجوم معزول على حاجز لقسد في الحسكة أو دير الزور أو الرقة، واصطياد دورية للنظام في البادية قرب حمص أو حماة، أو عناصر له في درعا، خلا عملية وحيدة يعلن التنظيم عن تنفيذها في مخفر حي برزة بالعاصمة دمشق.

ولم ينفع في تغيير هذا الانطباع إصدار «صنّاع الملاحم 7» الذي بثته «ولاية الشام» قبل أسبوع، فقد ضم عمليات قديمة وجديدة مسوقة من دون عناية. وضعفت فيه المشهدية، التي يحبها التنظيم كذلك، لصالح الشناعة العارية في تصوير الذبح أو إطلاق الرصاص على الرأس. وبعكس ما أراد صانعوه، دل الإصدار أن التنظيم يسير حثيثاً في طريق نهايته المنحدر ويتراجع عسكرياً وإعلامياً.

وتعود سوريا إلى افتتاحية العدد 392 من «النبأ» بعنوان «عودة المياه إلى مجاريها»، والتي تتحدث عن قرار «جامعة الدول العربية» بإلغاء تجميد عضوية سوريا الأسد وحضوره القمة العربية الأخيرة. لا شيء جديد في نظر صحيفة داعش فالطواغيت متماثلون حكماً، لكنها فرصة لإبداء الشماتة بالخصوم السوريين من «الصحوات» الذين وثقوا بالحكومات العربية والأجنبية وتعاونوا معها وآمنوا بالسياسية الدولية و«الديمقراطية الكفرية». ولذلك قاتلوا «الدولة الإسلامية» التي كانت تثخن في «الطاغوت النصيري» وتسحق جنوده وتسقط مدنه وتهدم سجونه، كما تحاول داعش إيهام قرّائها غير السوريين أو المطّلعين. وبناء على ذلك تزعم أن كل من قاتلها، أو حرّض على ذلك أو أفتى به، شريك في عودة بشار الأسد إلى «جامعة الدول العربية» الكفرية. ويشمل هذا فصائل الثوار، وفتاوى مشايخ القاعدة، والحركات المرتدة التي «غدرت بالمجاهدين»، وهذه الأخيرة إشارة داعشية شائعة إلى «جبهة النصرة».

بالمقارنة مع «النبأ» تخلو «الجريدة الرسمية» من أي إثارة. وعلى خلاف صور الجثث التي تحفل بها الأولى تقل الصور في الثانية وتقتصر على العلامات التجارية المراد إشهارها

مضت عشر سنوات على شقاق التنظيمين ثم اشتعال الحرب بينهما. بدّل الجولاني ملابسه فيها مراراً، وقاد جماعته إلى نسختها الأحدث في «هيئة تحرير الشام»، وإعلامه من «المنارة البيضاء»، الناشئة في فضاء الإعلام الجهادي العراقي، إلى مؤسسات ربما تحمل أسماء أجنبية مثل Creative، أو شعبوية مثل «راديو الثورة»، أو إدارية صارمة مثل «الجريدة الرسمية».

بالمقارنة مع «النبأ» تخلو «الجريدة الرسمية» من أي إثارة. وعلى خلاف صور الجثث التي تحفل بها الأولى تقل الصور في الثانية وتقتصر على العلامات التجارية المراد إشهارها. وتتوالى أسماء ملّاك المشاريع وتسجيل المنشآت، من المصوغات الذهبية والصرافة إلى صناعة المخلل، مروراً بالحجر والرخام وألواح الطاقة الشمسية والمنظفات وتعبئة زيت الزيتون.

غير أن الأمر لا يخلو من الطرافة كلياً حين تخرج الجريدة عن مهمتها الجافة وتنشر، في عددها الخامس، تعميم «مديرية الرياضة والشباب» إلى جميع الأندية بضبط جمهورها، بعدما ظهر مؤخراً من حالات «السباب الجماعي وسماع ألفاظ نابية» تخرج عن الذوق العام والآداب، وتخلق أجواء من الشحناء والبغضاء بين أهل البيت الواحد، وتحقق ما يسعى له «الأعداء والمتربصون بنا». فيما يجب علينا رسم «صورة رائدة تعكس مدى النضوج الأخلاقي والثقافي الذي وصل به أبناء الثورة للعالم أجمع». ويعدّ هذا التعميم إنذاراً أخيراً إلى كل من تسوّل له نفسه تكرار مثل هذه الهتافات والمظاهر التي «تقشعر لها الأبدان» ولا تمثل إلا أصحابها، وهم قلة كما تطمئننا المديرية في نهاية الأمر.