"لهُ ما لهُ، وعليها ما عليها" بسمة قضماني

2023.03.09 | 06:44 دمشق

"لهُ ما لهُ، وعليها ما عليها" بسمة قضماني
+A
حجم الخط
-A

هل لاحظتم أنّي حرّفت القول الشهير في العنوان الذي اخترته؟ نعم، قصدت ذلك. والمناسبة وفاة الدكتورة بسمة قضماني قبل أيام. تكاد تكون عبارة "له ما له، وعليه ما عليه" من الواقعية التي لن يضاهيها أي تعبير آخر. فمَن من البشر هو الشر الصرف، ومن منهم هو الخير الصرف؟ مع ذلك بدأت تلك العبارة تنزاح إلى حالة من الكوميديا، حين استعملناها لنتحدث عمن يغادر دنيانا، ممن لا يروقون لنا أو لا يتفقون مع وجهات نظرنا، وحتى أحياناً عن بعض المجرمين.

"ارجموه فهو ليس ملاكاً" تكاد تكون هذه الدعوة مستمرة منذ العام 2011 وحتى اليوم. ليس لديّ أي شك بأن أصلها من دوائر نظام الأسد، بهدف منع أي إجماع سوري على أيٍّ من معارضيه. وكان كثير من السوريين ينخرطون بحماس، بل وبكل إخلاص، في مثل تلك الدعوات. تقريباً استهدفت هذه الدعوة كل شخصيات المعارضة بيمينها ويسارها ووسطها. ولم ينجُ منها إلا من بقي خارج دائرة أي حركة مؤثرة، أو أي فعلٍ يذكر.

"إنه ليس ملاكاً"! ومن قال إن المطلوب من الناس أن تكون من نسل الملائكة؟ كانت تلك الهجومات، على بعض نقاط ضعفٍ تتواجد لدى أي منا، أو على تصريحات غير موفقة، أو آراء مخالفة لما يروق للجمهور، مدروسة تماماً. وأكاد أقول إننا جميعاً قد ساهمنا بها، وبإمكان أي واحد منا الآن استعراض كل الأسماء التي مرّت خلال ثورة السوريين، ليتأكد أنه كان منخرطاً في تلك الهجومات على شخص أو أكثر. ولكن ألا يستحق بعضهم ذلك؟ بالتأكيد، ولكنّا انجرفنا ولم نستثنِ أي أحد.

قد يكون ما نال قضماني من هجوم بسبب أنها امرأة، هو الأقل على مستوى الحالة السورية. ربما بسبب نضجها وخبرتها وخلفيتها الأكاديمية المرموقة

بالعودة إلى ما رافق وفاة المعارضة السورية بسمة قضماني من سجالات. وينبغي الانتباه أنه عند الحديث عن امرأة معارضة فللأمر شجون أخرى تفيض عما طال الرجال، وستكون كفّة "عليها ما عليها" هي الراجحة في الأغلب. وقد يكون ما نال قضماني من هجوم بسبب أنها امرأة، هو الأقل على مستوى الحالة السورية. ربما بسبب نضجها وخبرتها وخلفيتها الأكاديمية المرموقة. ولكن علينا الإقرار بأنها عملت في بيئة طاردة للكفاءات النسائية، حتى لو كانت بمستوى كفاءة قضماني. وأنا هنا لست مهتماً بالسجالات المعتادة إثر وفاة أي شخصية عامة. ولكني سأذهب إلى وادٍ آخر.

في مادة حوارية نشرت في "لوموند" الفرنسية صيف عام 2012، يسأل الكاتب قضماني عن انتقالها من العمل الأكاديمي إلى الانخراط المباشر بالعمل السياسي: "هل نحن مجهزون لممارسة المسؤوليات السياسية كدارسين لها؟ أم سنكون مشلولون بسبب الازدواجية بين الحالة الأكاديمية وبين الممارسة؟". تجيب قضماني: "لا أعرف. سأطرح السؤال على نفسي لاحقاً". بعد قرابة شهر على نشر تلك المادة الصحفية، سوف تستقيل قضماني من المجلس الوطني، وتعود إلى قاعات التدريس. يبدو لي هذا التزامن ذا دلالة، إضافة طبعاً إلى أن دراسة التاريخ والسياسة أمر مختلف عن صنعهما.

كزميلها برهان غليون، تركت قضماني التدريس الأكاديمي، والتحقت بالعمل السياسي المباشر عام 2011. كان الأمر كمن ينتقل من وجه المرآة إلى الجهة الأخرى، خلفها، بحسب تعبير كاتب مادة لوموند. انتقال من الوجه على ما فيه من وضوح للمشهد، بصفة المرء مجرد دارس ومراقب، إلى الانخراط في العمل، بدون قفازات، خلف المرآة، بما يحويه المكان من تشوهات. وأعتقد شخصياً أنهما، كل بطريقته، تعاملا مع حالة لم يختبراها سابقاً، فهل ندما على ذلك؟ شخصياً لا أعلم.

في شهادة أدلت بها قضماني بعد شهور قليلة من استقالتها من المجلس الوطني، متضمَّنة في كتاب "إلى أن قامت الحرب" للكاتب والمترجم السوري جولان حاجي، تذكرتُه هذه الأيام وكنت قرأته قبل أربع سنوات، تقول عن عملها في المكتب التنفيذي للمجلس، وكانت مسؤولة العلاقات الخارجية والمتحدث الرسمي باسمه: "على المرأة في الجو العام وسط السياسيين، أن تبني موقعها بكل ثقة وبكل دأب. على الصعيد الشخصي، اضطروا إلى التعامل معي لأن لي خبرة ثلاثين عاماً من العمل في العلاقات الديبلوماسية الدولية، فضلاً عن كفاءة لا يمتلكونها، وهي إجادتي عدة لغات أجنبية، أجبرتني تجاربي في الحياة على تعلّمها".

أورد هذا الاقتباس هنا، بعد قراءتي لكتابة شخصية سياسية سورية معروفة، كان أحد زملاء قضماني في المكتب التنفيذي وفي تأسيس المجلس، مستغرباً فيما كتب، ممن يرى أن الراحلة تعرضت لممارسات ذكورية أثناء تواجدها في عضوية المكتب التنفيذي، ويؤكد بأن "أي حديث عن ذكوريةٍ سادت في المكتب التنفيذي للمجلس الوطني السوري غير مطابقة للواقع". من معرفة شخصية بسيطة، أنا لا أشكك بأن الرجل يرى الواقع كما بدا له آنذاك، فيما يقوله، أو على الأقل بحسب نظرته لعمل المرأة في الشأن العام. ولن أفنّد هذا الرأي، رغم أن لدي عن الذكورية السياسية السورية، خصوصاً خلال العقد الأخير، الكثير مما أقوله، ولكن خطر لي أن أوجه له السؤال التراثي: "وهل شققت عن صدرها؟".

تشرح قضماني في ذات الكتاب، على نحوٍ طريف، ما كان يحدث أثناء مقابلات المكتب التنفيذي لسياسيين غربيين "كانت اللقاءات السياسية تتحول على النحو الآتي: يحضر زملائي وليس معهم مترجم، وهم لا يتحدثون لغات أجنبية. حين ينهي زملائي كلامهم الذي تقع على عاتقي مهمة ترجمته ترجمةً فورية، يعتبرون أن الحديث قد انتهى، فأضطر إلى تذكير الشخصية التي نقابلها بأنني هنا بصفتي مسؤولة عن العلاقات الخارجية وعضواً في المكتب التنفيذي مثلهم". كان عديد من المسؤولين يعتقدون بحسب سير اللقاء أن قضماني هي المترجمة.

وفي فقرة أخرى ستجيب قضماني، بقسوة أكبر على الرأي القائل بأن الحديث عن الذكورية في هذا المقام غير مطابق للواقع "حين أدخل إلى قاعة اجتماعات يفسحون الطريق لكي أمرّ قبلهم، لكنهم يجلسون إلى الطاولة في المواقع الأقرب إلى الشخصية التي نحاورها، معتقدين أن الحديث يخصهم شخصياً.. عملت، ليل نهار، ضمن مجموعات ذكورية الأجواء. حضرت لقاءات كثيرة لم تحضر فيها امرأة غيري. لا أحب أن أزاحم أحداً، لكن أصدقائي كانوا يتصلون بي ليخبروني أن بعض هؤلاء السياسيين وقحون وقليلو أدب، ولا شيء يوقف طموحهم وتسلّطهم. اضطررت شخصياً إلى أن أخوض قتالاً لأفرض نفسي، وأجلس وسطهم في المقدمة.. لا يتعلق الأمر البتة بانتماءاتهم السياسية. إنهم يتنافسون لاعتلاء المناصب".

هل بدوت لكم في كتابتي حتى الآن، وكأنني أتهرب من التطرق إلى السجالات التي دارت، حول لقاء قضماني بكتاب إسرائيليين عام 2008، في برنامج تلفزيوني فرنسي، حول كتابها "هدم الجدران"، وما انتشر من مواقفها؟ الحقيقة لا. فهناك في الوسط الفلسطيني، وخاصة الثقافي والأكاديمي، طيف واسع من المواقف من إسرائيل عموماً، ومن تفصيلات الحل السلمي وقيام الدولتين. ولو دققنا بذات المنظار الذي فعلناه في مقابلة قضماني، لأشهرنا سيفنا وصنفنا كثيرين من أصحاب تلك المواقف ووجهات النظر كخونة. ولن نستثني محمود درويش، حيث قال شعراً ما قالته قضماني تماماً عن الطفل ابن المستوطن الإسرائيلي، في قصيدته "حالة حصار".

ولكن هل أنا موافق على ما قالته؟ بالتأكيد لا. على الأقل، من وجهة نظري الشخصية، كان عليها أن تكون أكثر تشدداً، وهي تتحدث عن دولة احتلال عنصرية. ولكن الصور التي رأيناها، وما قيل فيها، كانت مدروسة من الجهة التي قامت بعملية "المونتاج". لنلاحظ كيف أذيع جوابها "نحن بحاجة لإسرائيل في المنطقة" مع حذف باقي الجملة التي تقول "شريطة أن تحدد حدودها وتضع شروط علاقاتها مع جيرانها". ولكن من منّا يعرف كل ما عملته قضماني لأجل قضية الفلسطينيين طوال عقود؟ قليلون جداً باعتقادي، وقد يكون الجواب الأكثر دراية، لدى المرحوم فيصل الحسيني.

قضماني كانت شخصية حيّة، عملت ما ارتأت أنه يتوافق مع قناعاتها، وبصدق. تراجعت حين رأت أنه كان عليها التراجع

للأسف، اعتدنا على ألا يكون هناك وجود لا في عقولنا ولا قلوبنا، لمن لا يكون على قياس مساطرنا. فالمختلف غالباً، منبوذ وكافر ومرتد إلى آخر تلك الاتهامات في ثقافتنا. إنه ملعونٌ ومطرود من رحمتنا. وعودة إلى تصنيف البشر بين ملائكة وشياطين، وهو فعلُ تبخيس في حالته الشيطانية، وركيك في حالته الملائكية. وبعيداً عن ثقافة الاكتفاء بذكر محاسن (موتانا). فإن قضماني كانت شخصية حيّة، عملت ما ارتأت أنه يتوافق مع قناعاتها، وبصدق. تراجعت حين رأت أنه كان عليها التراجع. انخرطت في مشاريع مميزة، وفي أخرى شخصياً أعتبرها كارثة وعلامة سوداء، وأعني هنا تحديداً عضويتها في اللجنة الدستورية. أما التفجّع، والاتهامات يميناً ويساراً بالخيانة، وما في حكمها من تهم أخرى، فهي، على ما يبدو، لا تعدو إلا بمثابة ما غدا جزءاً أصيلاً من واقع سجالاتنا الانتحارية.

بسمة قضماني لم تستيقظ، كالكثيرات، وهذا فخرٌ لهنَّ بالتأكيد، صباح الثورة السورية، لتكسر القيود الاجتماعية التي كبّلت حياة المرأة في بلادنا، وانطلقت بعدها إلى فضاء أكثر حريّة. قضماني، لمن لا يعرف سيرتها العائلية، عاشت أجواء الحرية والمساواة إلى حدٍّ بعيد، طوال حياتها، في الأسرة والمجتمع الذي نشأت فيه. أما في مجتمع يقتصر فيه دور المرأة، في الأغلب الأعم، على البيت والأسرة، مع أقل احتكاك متاح بمجتمع الرجال، فإن قضماني بدت، كقليلات غيرها، وكأنها قادمة من كوكب آخر. حظيت كغيرها ليس فقط على استهجان الذكور، بل على ما يشبه الاستنكار لوجودها في موقعها، من مجتمع ذكوري الطابع يضم الرجال والنساء.

سأعود لأختم باقتباس بالغ الدلال عن البنية الشخصية للراحلة قضماني، بعد شهور قليلة من مغادرتها المجلس الوطني السوري. تنتقد فيه عمل المجلس، ولا تستثني نفسها. في ختام شهادتها تقول "لم أغالِ في انتقاد المجلس. برأيي، لم يكن تعاملنا تعاملاً مسؤولاً مع المعطيات على الأرض. لم نكن إطلاقاً على المستوى المرجوّ. استغرقتنا ساحات الإعلام، بينما كان في الداخل أولئك الذين يعملون بصمت، من دون أن يعرفهم أحد. لا يزال هناك من يوثّق ويغيث ويقاتل، من دون اكتراثٍ بالظهور الذي أعمانا. لقد فشلنا في المجلس الوطني وفقدنا مصداقيتنا".