لماذا لا يزال بعض السوريّين ينكرون واقعهم؟

2024.02.15 | 06:57 دمشق

لماذا لا يزال بعضُ السوريّين ينكرون واقعهم؟
+A
حجم الخط
-A

دونكيشوت شخصيّة روائية لكاتب إسباني أصدرها عام 1600 أي في نهايات القرون الوسطى؛ حيث يظهر الدون شخصاً أحمق يتخيّل أنّه يحارب الشياطين والسّاحرات وهو في الحقيقة يرتطم بطواحين الهواء فيخر صريعاً؛ ولعلّ الرواية -في بعدها الفلسفي- تطرق موضوعة "الحقيقة" بين الواقع والخيال والحقيقة، والمفارقات الناجمة عن التعاطي مع الخير والشر كقيمتين مطلقتين أو كقيمتين نسبيّتين في واقع مادّي.

لاحقاً جاء فلاسفة كفرنسيس بيكون وديكارت فألفوا منطِقا جديداً لقبول ووعي "الحقيقة" الناتجة عن "الملاحظة والتجريب" بواسطة العقل، فالإنسان "كائن حر وواع، ذو إرادة" بحسب ديكارت؛ وبواسطة الوعي العقلي يمكنه معرفة الحقيقة.

وفي إطار الوعي الجديد للحقيقة دافع فلاسفة تلك الحقبة عن مصالح الأفراد في حياتهم اليوميّة، واستند الفلاسفة إلى الطبيعة لتأكيد الحقوق الطبيعيّة في ضوء "الحريّة" كقيمة أساسيّة.

فسّر هوبز ممارسة الحرية بالحركة؛ وأشار إلى أنّ ثمة قانون يحكم الطبيعة -لم يكن معروفا بعد- ورغم تصوره أن الطبيعة تسعى إلى السلام تخوّف هوبز من أنّ الإنسان -بعد امتلاكه السلطة للدفاع عن حقوقه المدنيّة- سيمارس العنف في الدفاع عن مصالحه؛ ورأى هوبز ذلك شرا، فاقترح إعادة السلطة إلى الحكومة؛ بالمقابل عوّل "جون لوك" على أنّ الإنسان: "مدفوع بطبيعته للخير"؛ وعوّل على ضمير الإنسان "المؤمن"؛ ما يعني أنّ الفلسفة الاجتماعيّة كانت -في ضوء إعادة قراءة المًقدّس- مشغولة بثلاثة أمور: تعيين الواقع؛ الحقيقة في الواقعيّة، قيمة الحقيقة بين الخير والشّر.

سنة 1687 اكتشف نيوتن قانون التجاذب بين جسمين مادّيين، ولم يمض الكثير من الوقت حتى اخترع علماء آخرون المضخّة ثم الآلة البخاريّة؛ وحدثت ثورة نتيجة المعرفة بقوانين استخلاص الطّاقة من المادّة، -غير الحيّة - وتحويل تلك الطّاقة من ساكنة إلى متحرّكة، وإمكانيّة دمج أكثر من عمليّة تحويل للطّاقة، كتحويل الفحم إلى حرارة، وتعريض الماء للحرارة حتى يتحول إلى بخار، وتحويل البخار إلى قوّة تحرّك العجلة والعربة والباخرة؛ وفي سياق البحث عن اقتصاد الطّاقة عثر الباحثون -لاحقا- على مواد أكثر جدوى من الفحم -كالنفط واليورانيوم، وصولا إلى معرفة كيفيّة تخزينها واحتكارها.

رأى أصحاب النّظريّة أنّ الفرد ومجموع الأفراد يسعون إلى المنفعة للحصول على السّعادة عبر حسابات اللّذة بوصفها خيرا، والألم بوصفه شرّا، أمّا الغاية فتحقيق السّعادة لأكبر قدر من النّاس

قد نحتاج للفت القارئ الكريم إلى أنّ الحريّة -كقيمة وممارسة يشار إليها بالحركة- كانت قبل الثورة الصناعيّة تستند إلى الوعي العقلاني، وظلّت بعد الثورة تستند إلى الوعي العقلاني؛ لكنّ مُدخلات الوعي وأسانيده تغيّرت؛ فالطبيعة -مستند الحق الطّبيعي- كان يعني النبات والحيوان والإنسان والحركة التي تنتجها العوامل الطبيعة فحسب قبل دخول الآلة والحركة الصناعيّة، والتصورات عن الحركة الطبيعيّة أصبحت قوانين حركة المادية، أمّا قيم الأفراد فلم تكن من قبلُ مفصولة تماما عن الموروث الروحي والفلسفي حتى سيطر المنطق الاقتصادي المادّي في تعيين ما الخير وما الشّر.

ظهرت: النفعية في أواسط القرن الثامن عشر على يد جيرمي بنتام وجون ستيورات ميل، كنظريّة معرفيّة تؤوّل العلاقات الاجتماعيّة على ضوء تصوّرها عن حركة الطّبيعة بأنها حرة إرادة المنفعة، واجتماعيّا رأى أصحاب النّظريّة أنّ الفرد ومجموع الأفراد يسعون إلى المنفعة للحصول على السّعادة عبر حسابات اللّذة بوصفها خيرا، والألم بوصفه شرّا، أمّا الغاية فتحقيق السّعادة لأكبر قدر من النّاس. ورغم كل الانتقادات الموجّهة إلى هذه النظرية إلّا أنّها النظرية الوحيدة التي تؤسس لموضوع الانتخاب الديمقراطي، فالمُنتخَب ليس ممثلا عن إرادة منتخبيه بل مندوباً عن إراداتهم وتعييناتهم لما هو خير لذيذ أو شر مؤلم؛ والحكومة أداة..

 لكن النظريّة -بقصر استنادها على البعد المادّي فحسب للإنسان- قلبت مسار تشكلّ الحرية والحقيقة والحقوق من "طبيعي، فمدني يجري فيه تهذيب الرغبات بحسب نظريّة أخلاقيّة إحدى دعامتيها المساواة إضافة إلى الحريّة، فالمستوى السّياسي الذي تُمارس فيه سلطة محدّدة المهام ومعلومة الحجم بمقدار عدد التفويضات التي حصلت عليها؛ إلى التّالي: كائن سياسي؛ يعيد قراءة المجتمع المدني بوصفه منعكساً عن الرؤية السياسيّة؛ فيبدو المجتمع خضمّاً من القوى السّياسيّة التي بدأت -للتو-صراعاتها؛ لا التي أنهت معظم صراعاتها أو أحالت جزءا منها إلى المستوى السياسي؛ بل وأعاد ذلك الكائن السّياسي قراءة الطبيعة ذاتها وأعاد تقييمها: فقيمة الشّجرة مثلا تساوي حجم ما تحتويه من طاقة؛ فحوّلت الكائنات كلّها -بما فيها الإنسان- إلى أشياء تقاس بمقدار طاقتها.

ثمة فرق بين حريّة تنتج حقيقة وسلطة للدفاع، وبين قوّة طّاقة، لم تنتدبها إرادة، تفرض حقيقة وسلطة!

مال الكائن السّياسي -إبّان الحقبة الكولينياليّة- إلى حق قوّته بالوصول إلى موارد الشّعوب الأقل قوّة؛ كما لا يزال يميل إلى حق قوّته النّوويّة في أراضي وموارد الشعوب الأخرى!

بالعقل المادّي الرصين وعى نيتشة -ككائن سياسي- حيويّة الحياة؛ فالطبيعة ليست زقزقة العصافير وحفيف الأشجار إنّما هي "إرادة قوّة"؛ والطبيعة لا تكون غير أخلاقيّة حين تسحق الضعفاء ولا ترحمهم؛ لذلك طالب نيتشة صراحة بقلب القيم وإعادة تعريف الخير والشّر!

حسنا: نحن لا نزال نحاور الحقيقة هنا في الواقع المادّي، لا تلك التي في خيال دونكيشوت؛ لكن الحقيقة هنا قابلة للتغيير باستمرار، ولا بد من حمايتها باستمرار، أو إعادة وعيها باستمرار، وميشيل فوكو يصدمنا بالتّالي: من يمتلك المعرفة -الوعي بالشروط المادّيّة- فإنّه يمتلك القوّة، ومن يمتلك القوّة فإنّه يمتلك سلطة إعادة تعريف الحقيقة؛ تماما كما يفعل فريق كرة قدم، بالمعرفة والقوّة يمتلك سلطة تغيير نتيجة المُباراة -حقيقتها- في أي لحظة من زمن المُباراة؛ لذلك يدعو فوكو -اليساري- إلى أنّ : من حق كلّ إنسان السّعي لامتلاك المعرفة والقوّة لإعادة تعريف الحقيقة!

لكن من لا قوّة له ماذا تفيده المعرفة؟!

من جهة أخرى فإنّ من لديه "القوّة" يمكن أن يتحكّم بشروط إنتاج الحقيقة الماديّة؛ تلك التي عرفها من قبلُ عبر الملاحظة والتّجريب- وعرف كيف يعيد صناعتها؛ وهذا تماما ينطبق على الجانب الاجتماعي من نظريّة القوّة، مثلا: يمكن لسلطة سياسيّة متأتية من فائض طاقة نفطيّة أن تصنع الشروط الموضوعية للتشدّد الديني فنتج متشدّدين حقيقيّين، تماما كما يمكنها أن تصنع الشروط الموضوعيّة للانحلال وتفسخ المجتمع!

داعش مثلا: حقيقة ماديّة صناعيّة، لكنّها حقيقة، وما بعدها ليس كما قبلها، ما بعدها لا صوت لسوريين يريدون حريّة بل لسوريين يريدون الخلاص، أو لمعارضين يريدون السّلطة، أو لمشاريع ومبادرات تريد التّقسيم

ويمكن لسلطة سياسية تمتلك القوّة أيضاً أن تترك شعباُ أراد الحريّة أعزلا من السلاح النّوعي، ويعاني إجرام نظام يفتك به بكل أنواع السّلاح؛ ثمّ يمكنها أن تُخرِج متشدّدين من سجون بلدان عديدة، وأن تفسح لهم المجال لدخول سوريا والقتال فيها بذريعة الدفاع عن حريّة شعبها بأن "يرفض الحريّة!"، فتتحوّل ثورة حريّة حقيقيّة إلى حرب أهليّة حقيقيّة، ويموت سوريّون، ويهرب ملايين، وتُقسّم البلاد في خلطة عجيبة من تناقض القيم والحقائق المُصنّعة!

داعش مثلا: حقيقة ماديّة صناعيّة، لكنّها حقيقة، وما بعدها ليس كما قبلها، ما بعدها لا صوت لسوريين يريدون حريّة بل لسوريين يريدون الخلاص، أو لمعارضين يريدون السّلطة، أو لمشاريع ومبادرات تريد التّقسيم، أو لقوى أمر واقع تحكم بالوكالة شعباً متّهما بالإرهاب؛ اللهم إلّا من هداه وعيه بالعقل للذّة فرديّة قريبة وقبل تقسيم البلاد؛ عندئذ يتحوّل إلى ناشط ديمقراطي جدّا!

ربّما لم يكن دونكيشوت أحمق، ربّما كان يحبّ الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا، لكنّه كان عاجزاً عن تغيير حقيقة واقع لم يساهم في إنتاجه، وعاجزا عن تقبّل قيم لا يزال خيرها وشرّها مؤلمين، فلجأ إلى الخيال، أو إلى الله!