لا شماتة في الحرب

2022.02.26 | 05:29 دمشق

20220225_2_52330666_74034202.jpg
+A
حجم الخط
-A

واندلعت أخيراً حرب بوتين على أوكرانيا، هكذا سمّاها المستشار الألماني أولاف شولتز، ومن تابع الاجتماع الذي عقده بوتين مع أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي يدرك صحّة ذلك التوصيف، فقد بدا أعضاء المجلس وكأنّهم في مدرسة ابتدائية ينتظرون تعليمات الأستاذ أو المدير، وما تلعثمُ رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية بالكلام، وعدم معرفة الجواب اللازم النطق به عند سؤاله من الرئيس حول موقفه من إعلان الانفصاليين في الدونباس استقلال منطقتهم، إلا دليل على أنّ فرداً واحداً في روسيا كلها من يأخذ القرارات، أما البقيّة فعليهم التنفيذ.

ليس فقط أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن الفضاء الاستراتيجي السوفيتي في دائرة الخطر، بل قد يفكّر القيصر باستعادة إسطنبول ذاتها ليعيدها في يوم ما إلى الروح الأرثوذكسية هذه!

تجهّز بوتين لحربه هذه طويلاً، وفي كلمته المتلفزة الموجهة للشعب الروسي بتاريخ 21/2/2022 قال الكثير من خلف ستار بتورياتٍ لا تخطئها عينُ المراقب. وجّه رسائل بالعمق لجميع الشعوب التي كانت وأراضيها في يوم من الأيام تحت سيطرة الروس، ليس فقط أيام الاتحاد السوفيتي السابق، بل وأيضاً أيام الامبراطوريات الروسية المتعاقبة، وهذا ما يُفهم من تمسّكه بالأرثوذكسية كعنصر أساسي مع العِرق في تشكيل الهُويّة القومية الروسية. هذا يعني أنّه ليس فقط أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن الفضاء الاستراتيجي السوفيتي في دائرة الخطر، بل قد يفكّر القيصر باستعادة إسطنبول ذاتها ليعيدها في يوم ما إلى الروح الأرثوذكسية هذه!

من الرسائل المبطّنة ما خصّ به إسرائيل، فتكراره لاسم لينين مراراً لا يقصد منه حصر اللوم بالبلاشفة الشيوعيين الذين قال إنّهم من اقتطعوا أراضي روسية وأهدوها لأوكرانيا لتنشئ دولتها، بل هو غمزٌ من أصل لينين اليهودي، والمتابع يعرف أنّ لإسرائيل حضوراً كبيراً في أوكرانيا، وأنّ نسبة اليهود هناك لا بأس بها. ركّز بوتين في خطابه أيضاً على التنازلات التي قدّمها الشيوعيون للقوميين المتشددين، وعلى ضمان حقوق الانفصال عن الاتحاد السوفيتي بحجّة حق تقرير المصير، وللمفارقة فقد استخفّ بهذا الحق عند كلامه عمّا فعله أسلافه، بينما وفي نفس الخطاب برّر تدخله في أوكرانيا تحت نفس الذريعة بعد اعترافه بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك!

كرر بوتين في خطابه مراراً أنّ أوكرانيا كانت جزءاً من روسيا لكنّ لينين من صنعها، وسمّاها بوتين بأوكرانيا فلاديمير إليتش لينين السوفيتية، أمّا خروتشوف فهو من اقتطع القرم من روسيا وأهداها لأوكرانيا، وكرر أنّ الأخطاء أو الخطايا التي ارتكبها حكام روسيا الشيوعيون باقتطاعهم أجزاء من روسيا لا بدّ وأن تصحّح وتُعالج، وحسب تعبيره، "مهما كانت الأوضاعُ السياسية الحالية، فهي لا يمكن أن تكون أسساً متينة للدولة الروسية". أوصل بوتين من خلال ذلك رسالة مفادها أنّ الحديد لا يفلُّ إلا بالحديد، وأنّ القوميّين الروس قادمون لاستعادة ما فرّط به الشيوعيون، فالزمن الآن هو زمن الروس، ولم لا فالعزف على أوتار القومية لم تنته موضته بعد في تلك البلاد الغارقة بأحلام قادتها عن العظمة وأوهام التفوّق العرقي، رغم أنّ شعوبها تعيش أسوأ كوابيس الفساد والاستعباد.

ما يثير السخرية أنّ خطاب المسؤولين الروس من بوتين وحتى أصغر موظف لديه، يركّز على مهمّة روسيا المقدّسة في تحرير أوكرانيا من حكامها النازيين! وأنّ هدفها المُعلن هو نزع سلاح أوكرانيا وحماية الروس والأوكرانيين من حكومتهم، رغم أنّهم اختاروها بالانتخابات! لقد أفلتت منه عبارات لا يمكن للمراقب إلا أن يلتقطها ليفهم عمق الجرح الذي يشعر به بوتين من انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد اعتبر في خطاب سابق أنّ ذلك كان أسوأ حدث في القرن العشرين، وأكثر كارثيّة حتى من الحربين العالميتين.

بشار صورة بوتين المعكوسة في مرآة نفسه، فهذا المسخ المهزوز من الداخل يحاول أن يكون مستبداً وديكتاتوراً، لكنّه لم يستطع أن يصبح سوى مجرم حرب

لا شكّ بأنّ بوتين ينظر إلى نفسه كمخلّصٍ برسالة سماوية تحمل في طياتها خليطاً من الدين والقومية، وهو بنفس الوقت يتحلّى بعمق رؤية أصحاب التفكير الاستراتيجي، فروسيا التي استلمها من سلفه بوريس يلتسين منهكة منهارة على كل الأصعدة، هي غير روسيا اليوم. يقرأ بوتين بدقّة تردد الإدارات الأميركية من بداية عهد أوباما وحتى اللحظة، ويعرف كيف يكسب من رغبتها عدم فتح جبهة معه للحفاظ على تركيزها في صراعها مع التنين الصيني. يعرف بوتين جيداً رغَدَ العيش في أوروبا الغربية وخوف حكّامها من فتح حروب في قارّتهم بعد أن حققت شعوبهم مستويات لا يمكن التنازل عنها من الأمن والسلام، يعرف نقاط ضعف الديمقراطية جيداً، وقد استهزأ منها بخطابه الأخير، وكأنّ احترام إرادة الشعوب نقيصة!

لا بدّ أيضاً – وأخصّ السوريين هنا - لمن استمع وتابع خطاب بوتين الأخير ولقاءه أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، أن تحضره المقارنة فوراً مع خطابات الأسد واجتماعاته بأعضاء قياداته، فباستثناء حالة التهريج الأسديّة التي يقابلها لؤم وخبثٌ بوتيني عميقان، وباستثناء جمهور المصفقين هنا والتلامذة النجباء هناك، سيجد المرء كثيراً من التشابه في الجوهر. ديكتاتورٌ فردٌ يأخذ القرارات ولا يُشرك بها أحداً، جنون العظمة مع فارق المقاييس الهائل طبعاً، فالأول يوسّع دائرة سيطرته ويقضم بلداناً وشعوباً، بينما الثاني يدمّر تاريخ بلده ويُسلمها للغزاة والطامعين. والحقيقة أنّ بشار صورة بوتين المعكوسة في مرآة نفسه، فهذا المسخ المهزوز من الداخل يحاول أن يكون مستبداً وديكتاتوراً، لكنّه لم يستطع أن يصبح سوى مجرم حرب. بينما لا يعدم المرء الانتباه لحجم الثقة بالنفس الهائل عند بوتين، وشتّان ما بين المجرمين بكلّ الأحوال، فربّ قاتلٍ أخزى القتل وحطّ من هيبة المجرمين بسخافته ووضاعته، كما هو حال من ابتلينا به وريثاً لحكم سوريا.

لكن لا ندري على وجه اليقين كيف سيكون سلوك جيش بوتين مع المدنيين الأوكرانيين، وهل سيعتبرهم – كما فعل بالسوريين – أهدافاً لتجربة أسلحته وفعاليتها، أم سيأخذ بعين الاعتبار الأصول المشتركة والقرابة بينهم وبين الروس! لا مؤشرات مؤكّدة حتى الآن. سيكون جنوده أيضاً من الخاسرين، ما لم يكونوا طبعاً من أتباع مدرسة الأسد التعفيشية، فلا أحد يربح في الحروب سوى الجنون، وفيها لا خاسر إلا الشعوب، كالورود في ساحة المعركة حسب تعبير محمود درويش في قصيدة، الشعوب من تدفع ثمن طموح القادة وجنونهم.

حمى الله الأوكرانيين وخلّصهم والسوريين من طاغية العصر.