لا حروف عربية في سوق مالطا وكوزموبوليتية إسطنبول المجروحة

2023.07.29 | 05:13 دمشق

آخر تحديث: 29.07.2023 | 05:13 دمشق

لا حروف عربية في سوق مالطا وكوزموبوليتية إسطنبول المجروحة
+A
حجم الخط
-A

للمدن العريقة طابع ثقافي تعددي، أقوى بكثير من الأحزاب السياسية وبرامجها الانتخابية، فهي باقية وهم سيمرون، يمتحنون بقراراتهم مدى أصالة هويتها التعددية، تلك المدن التي تتنفس هواء خصوصيتها من تنوعها، ولعل إسطنبول (إن شئت القسطنطينية) من أبرز المدن التي تعرضت لامتحانات كوزموبوليتية، بحيث إن هذا المنتصر أو ذاك أراد أن يجرها إلى ضفة واحدة وأن يلبسها لباساً أحادياً، وأن يعيد تشكيل هويتها من التنوع إلى الأحادية، وهذه الأحادية وفقاً لتجربة إسطنبول كانت أحادية قومية مرة، ودينية أخرى وعرقية وطائفية.. بل كذلك على مستوى العادات والتقاليد واللباس، ولعل ما رصده أورهان باموق في كتابه إسطنبول الذكريات والمدينة كان الهدف منه نقل تحولات المدينة، بل إن العبور الطبقي والاجتماعي داخل المجتمع نفسه قد يكون أحد ممكنات المدن الكبرى كما نرى في الرواية التي تحولت إلى متحف في جيهانغير (متحف البراءة)، وحين رأى أتاتورك أن إسطنبول عصية على الترويض أو العيش دون ذاكرتها القديمة هجرها ليبني مدينته المعاصرة أنقرة.

شكل سوق مالطا وطلعة الأمنيات مستقراً لأحلام باحثين عن الأمان، نتيجة حروب وقعت في بلادهم، فمنحتهم إسطنبول كما يليق بتاريخها الكوزموبوليتي فسحة للراحة، وفسحة لأمان العيش، والتخفف من الفقد والذاكرة المذبوحة، وشاءت ظروف هذه المرحلة التاريخية أن يكون أغلبهم سوريين.

أولاً بأول، بات سوريو الفاتح يعلنون عن هويتهم وخصوصيتهم الأنيقة والجميلة والمختلفة، أرادوا أن يكونوا إضافة مختلفة للمكان، تأنقوا في عرض طعامهم وعيش يومياتهم كما يليق بقادمين يحملون عاداتهم وتقاليدهم وأطعمتهم وحاجاتهم:

سيخ الشاورما بقطع الليمون ورائحة الهيل وحجمه الكبير، يقف أمامه فنانون في سقسقة السندويش وتقميره حتى يحسب من يراه أنه في طلعة الشيخ سعد بالمزة.

دكاكينهم الصغيرة وقد التمت منتجاتها بجانب بعضها كأنها تجلس في مركب يخاف على نفسه من الغرق في البحر.

محال الحلويات المصفوفة بأناقة فنانين، يكفي أن تمر أمامها، لا تأكل منها رجاء، اكتف بالفرجة على أناقتها، أي عراقة خلف تلك اللوحات الجميلة؟

المكتبات العربية التي أصبحت محطات لقاء وتعارف ومودة، منتديات ثقافية لأوطان مجروحة، باحثون عن تفسيرات لما حدث في أوطان مسيجة ببساطير العسكر.

وضمن كل هذا العالم المعلن هناك كذلك عيادات (القجق) التي تقدم طرائق للتخلص من الصلعة، والحصول على ابتسامة هوليوود كي يكملوا ما تبقى من حياتهم بما تتطلبه مجتمعات وسائل التواصل الاجتماعي من جمال.

مقاه وكافتيريات للتعارف أو تبادل خبرات الحياة، أو اللقاء بمهربين يقدمون أجمل الوعود وأقصر الطرق للوصول إلى أوروبا الموعودة.

تغيب عن المدينة شهوراً عديدة، وما إن تكون في وسط طلعة الأمنيات حتى تفتقد اسم فوَّال (بوز الجدي) كيف لبوز الجدي أن يغدو بحروف لاتينية؟ ألم يسمع عمال البلدية أن الأسماء الخاصة في اللغة حتى في الأبحاث الأكاديمية تبقى بلغتها الأم؟ تسأل أحد عمال بوز الجدي فيبتلع دمعته وقد شعر أن اسم عائلته قد مسه شيء من الخسران بعد أن كتب بحروف لاتينية.

كيف لدولة تعقد أكبر الصفقات التجارية مع الدول العربية وتودع الملايين في بنوكها وفي الوقت نفسه يرفض مناقشة طلبها بالتأورب أن تسير عكس مصالحها؟ ألا يتابع شعبها الأخبار؟ تتساءل عن الإشكالية الهوياتية التي يحملونها تجاه ثقافتك، ألأنهم خلطة أعراق وكانت ثقافتك العربية أو الإسلامية العامل الرئيس الذي حمل توحدهم؟ أهو نوع من قتل الأب الثقافي؟ أم كما يرى أحد الأصدقاء المناهج الدراسية والسردية التي قدمها أتاتورك ضد العرب ليبني سرديته الخاصة ويجمع شعبه بحيث غدت سردية (خيانة العرب لهم) حقيقة؟ هل هذه "حسين" جديد؟ ألا تتغير الحضارات والشعوب وأنه لم يعد هناك من مكان لثقافة الإمبراطوريات والغالب والمغلوب؟

لا يمكننا أن نتجاوز فكرة أن هذا الذي يحدث موجه للثقافة العربية بشكل خاص، والنشاط السوري بشكل أخص، لكن لا شيء يسوغه سوى الإفلاس، وأنت تبحث عن هويتك لا تسحق هوية الآخر أو خصوصيته؟

تسير في سوق مالطا وقد افتقد حروفه العربية، لكن من يغير سحنات الوجوه ولغة العيون وابتسامات التفاهم؟

ما هذا السعار الانكفائي والانغلاقي المعاكس لحركة العالم والتدفق الحر للتواصل والغنى بالانفتاح، وأي أسباب انتخابية وبلدية تدفعك لذلك؟ ألا يوجد لديك مستشارون يعملون على كيفية التأثير في الرأي العام؟ ألا يوجد ما تجمع به عصبتك الانتخابية أو الوطنية إلا بالانكفاء أو برفض الآخر؟

لا يمكننا أن نتجاوز فكرة أن هذا الذي يحدث موجه للثقافة العربية بشكل خاص، والنشاط السوري بشكل أخص، لكن لا شيء يسوغه سوى الإفلاس، وأنت تبحث عن هويتك لا تسحق هوية الآخر أو خصوصيته؟

قلّ عددُ الشحاذين الذين كان كلهم يدعون أنهم سوريون، قلَّ عددُ مرتادي السوق وقد حاصرتهم دوائر الهجرة والتفتيش والترحيل اللاإنساني، وهل جاؤوا بإرادتهم وفي ظروف طبيعية لتطبق عليهم قوانينك الطبيعية؟

ألا يوجد مثقف إسطنبولي يدافع عن تعددية مدينته؟ ألا يوجد مثقف إسطنبولي يقول: أنا عشت هنا وهناك وأفدت من التعدد والتنوع؟ والانكفاء على الذات أسوأ أنواع الحلول للمحافظة على الخصوصية؟

ليس فقدان الحروف العربية في إسطنبول وحده يؤلمني كمواطن عربي اعتاد زيارة إسطنبول بكثافة في السنوات الأخيرة، لأنني أستطيع أن أجد لغتي الخاصة مع المحال وأصحابها، وأنواع الأطعمة ورائحة بهاراتها، بل إن ما يؤلمني أن تنكفئ على نفسك وتمارس قوتك على مستضعف أو باحث عن الأمان!

السؤال المحيّر: ألا يوجد مثقف إسطنبولي يدافع عن تعددية مدينته؟ ألا يوجد مثقف إسطنبولي يقول: أنا عشت هنا وهناك وأفدت من التعدد والتنوع؟ والانكفاء على الذات أسوأ أنواع الحلول للمحافظة على الخصوصية؟

ليتكَ لم تنضم إلى قائمة خيبات أملي التي امتلأت في السنوات الأخيرة أمكنة وأشخاصاً وأحلاماً، ليتك بقيت في قائمة مانحي الأمل وأنا الذي حسبتك منها وقد كذبتُ أنشودة لشاعر شعبي فراتي كما يقول أحد أصحاب المحال:

"يا حسافة كنت أحسبك ردّة لو سنسول، طلعت غيش وضيعت عمري بـ سبول"

وفي الشرح يقول ذلك الصديق الفراتي: إن هذه الأنشودة قد نظمها شاعر في التحسر على حب فاته، حيث توهم أنها تحبه فرست كل سفنه في مينائها، توهماً منه أنها الردة والسنسول (تسميات لحركة الماء وقوتها وعمق النهر) لكن أملهم بإسطنبول كان كحالة ذلك العاشق الفراتي (غيش) أي ماء غير عميق لا يحمل سفن الأحلام، وحين ألقوا بثقل أجسادهم وأحلامهم إذ بهم يرتطمون بتراب قوانين البلديات وتتصدع طموحاتهم.

مشكلة السوريين اليوم، كما منذ سنوات، أن حجم أملهم وطموحهم أكبر بكثير من خيبة أملهم وقد كبّروا الأحلام! ومن أين جاءت أحلامهم؟ مما قلته وواعدتهم به وإذ بك تتخلى عنهم عند أول منعطف حقيقي، فكنت كحبيب قدم الوعود الكثيرة بيد أنه في أول هزة انكفأ على نفسه وألقى بالأحلام في فضاء النساخة السياسية.