لا تنفذوا وصية السوريين العاثرين

2023.04.27 | 07:05 دمشق

نسيب عريضة
+A
حجم الخط
-A

قبل عقدين من اليوم، خطرت لصديقي فكرة بدت لي مجنونة تماماً، كعادتي في الثواني الخمس الأولى، عند تلقي معظم أفكاره. "ما رأيك أن نعمل على استعادة رفات الشاعر نسيب عريضة، وإعادة دفنه في حمص؟" سألني وكأنه يسأل عن رأيي بأن ننزل إلى الشارع ونحضر بعض ما يلزم للبيت الذي كنا نسكنه معاً. شخصياً لا أمتلك ما يشبه قابلياته للتفكير بجنون متطرّف، ومع ذلك، وبعد المفاجأة الأولى للسؤال، رحتُ، كما كان يحصل على الدوام، أقلّب الفكرة معه. وكما يحدث لي مع معظم أفكاره التي لا تخطر ببال أحد سواه، ستبدو لي الفكرة، خلال الدقائق التالية، عظيمة جداً وملهمة.

كان ذلك في بداية الألفية الجديدة، جاءت الفكرة في سياق فعالية كانت ستقام في المدينة. عملنا أنا وصديقي ، على ما اعتبرناه مشروعنا الخاص، الذي سوف يُتوَّج بإقامة مدفن يعلوه نصب بازلتي، سيكتب عليه مقطع من قصيدته الأشهر "صور تلوح لخاطر المعمود". المقطع الذي سيؤكد أن المدينة كانت أمينة لأحد أشهر أبنائها، فنفَذت وصيتة بعد أكثر من نصف قرن على وفاته: يا دهرُ قد طالَ البعادُ عن الوطن/ هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن/ عُد بي إلى حِمص ولو حَشوَ الكَفَن/ واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ/ واجعَل ضريحي من حِجارٍ سُودِ.

أجرينا كل ما يلزم من تواصل مع المطرانيات في حمص، للاستفادة من علاقاتها مع الجاليات السورية في أميركا. إلى مراسلة أسماء محددة من الجالية هناك، وتوصلنا إلى تحديد مكان قبره، والإجراءات اللازمة للحصول على الموافقات، ثم فشل المشروع. لن أدخل هنا في تفاصيل أسباب الفشل، وكثير منها على الأرجح لم تعد في ذاكرتي، لكن يمكن القول بأنه كان كأي مشروع بنكهة رومانسية. مكلف إلى حدٍّ كبير، وليس وراءه ربح ماديّ، ولهذا كان عليه أن يفشل.

في عام 2012 كانت المرة الأولى التي رأيت فيها مقبرة في إسطنبول، وكنت انتقلت إليها حديثاً. في زيارتي الأولى إلى منطقة "أيوب سلطان"، حيث تقع تلّة "بيير لوتي" التي أخذت اسمها من أحد الكتاب الفرنسيين. أقام الشاعر بها لسنوات، وكان يكتب مطلا على خليج "القرن الذهبي"، وهي من أجمل إطلالات المدينة وأكثرها بهاءً. وأنا أتسلق التل خلال طريق ضيق، وجدت المقبرة على يميني. مقبرة تطل على ذاك المشهد الساحر مظللة بخضرة الأشجار. وسط استنكار من كانوا معي، طلبت منهم أنني لو مت في هذه المدينة، أتمنى أن أدفن هنا، وأستمتع بعد الموت بما لم أحظَ به خلال الحياة. بعدها، شربت القهوة في مقهى يحمل أيضاً اسم الشاعر، ونسيت أمر المقبرة.

ليس لدي إرثٌ ثابت لمقابر أجدادي الذين انتقلوا في هجرات قسرية منذ القرن التاسع عشر. كررناها نحن أحفادهم مع أبنائنا وأحفادنا في السنوات العشر الأخيرة. ولن يعنيني إن دفنت في واحد من جبال القفقاس، أم في أحد تلال حمص، أو هنا في إسطنبول، حائراً ما بين قطبي قبور الأجداد جنوباً وشمالاً

مع مرور السنوات، ككل شيء، تتبدل الأفكار والمشاعر والأماني. اليوم خطر لي وأنا أتذكر فكرتنا المجنونة تلك عن استعادة جثمان عريضة. ماذا لو كانت لدى كل سوري الآن، ذات وصية الشاعر؟ أن يعاد كأي عاثر "ولو حشو الكفن" إلى مدينته أو قريته ليعاد دفنه هناك. أيضاً رحت أقلّب الفكرة في رأسي. كم سيكون عدد هؤلاء؟ وبأية أساطيل بحرية أو جوية سيتم تأمين النقل؟ وكم يحتاج  مشروع كهذا من التمويل؟ لم أتعب نفسي كثيراً في الإجابات على فكرة لا تستحق إضاعة الوقت عليها. فلست أنا مجنوناً كصديقي، ولا شاعراً رومانسياً كنسيب عريضة. وانتهيت سريعاً إلى أنني شخصياً، أعرف أنني سأموت حيث أنا، ولن يكون هناك عاقل سيفكر باستعادة رفاتي، أو رفات أي أحدٍ من مئات الآلاف الذين ماتوا حتى اليوم خارج بلدهم.

اختيار مكان أو طريقة الدفن، رغم مشروعيته إنسانياً، سيبدو اليوم للسوريين ترفاً لا يجرؤون حتى على التفكير به. ومع ذلك لا بد أن الفكرة قد خطرت لكثيرين غيري، خصوصاً أولئك الذين ثبت أجدادهم في المكان لمئات السنين، وصارت لهم مقابر عائلية. شخصياً، ليس لدي إرثٌ ثابت لمقابر أجدادي الذين انتقلوا في هجرات قسرية منذ القرن التاسع عشر. كررناها نحن أحفادهم مع أبنائنا وأحفادنا في السنوات العشر الأخيرة. ولن يعنيني إن دفنت في واحد من جبال القفقاس، أم في أحد تلال حمص، أو هنا في إسطنبول، حائراً ما بين قطبي قبور الأجداد جنوباً وشمالاً.

ما يعرفه جميع المهجَّرين اليوم، أن نهايتهم ستكون ضمن مستطيل عميق، يشبهه أي مكان آخر للنهايات، مهما اختلفت الجغرافيا، في بقع يمكن وصفها بمقابر الغرباء. في بعض البلدان سيعتبر دفنهم عبئاً غير مُستساغ على الدولة التي يقيمون فيها. في قصيدته "مديح الظل العالي" يقول محمود درويش: "ومن لا برَّ له، لا بحر له". بالقياس، فمن لم يكن له وطن ليعيش فيه، فلا بأس ألا يكون له الخيار في أي بقعة من الأرض سوف يدفن بها بعد موته.

كلمات مفتاحية