كيف يبدو "تاريخ سوريا الحديث" من إدلب؟

2022.11.28 | 06:16 دمشق

كتاب كافية
+A
حجم الخط
-A

عصر الثلاثاء الماضي كان الشرعي العام في "هيئة تحرير الشام" يحضر فعالية ثقافية سيصفها بالمميزة، وهي العرض الذي قدّمه الدكتور عبد الرحمن نمّوس لكتابه "تاريخ سوريا الحديث".

ورغم أن أبا عبد الله الشامي (عبد الرحيم عطّون) وصف الاستعراض بأنه جميل إلا أنه من المستبعد ألا تكون ذاكرة عضو مجلس شورى الهيئة قد انشغلت به إلى درجة عدم البحث في ملامح المؤلف عن الشبه مع شقيقه الراحل رضوان (أبي فراس السوري) الذي كان زميل عطّون اللدود في شورى "جبهة النصرة". ولعله تساءل عن موقف أبي فراس لو علم أن الجماعة صارت تدعم نشاطات مقهى باسم "كتاب كافيه"!

ولد محمد رضوان نمّوس، عام 1950، لأسرة متدينة في بلدة مضايا التي تبعد 40 كم إلى الشمال الغربي من دمشق. وبتأثير الحماس الذي أعقب هزيمة حزيران 1967 قرّر أن يتطوع في الكلية الحربية بعد نيله الثانوية. تخرج برتبة ملازم وقضى خدمته العسكرية مترقياً بشكل عادي حتى برز صراع الإسلاميين مع حكم حافظ الأسد في أواخر السبعينيات.

كان أبو فراس قد انتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين كان لأجنحتهم العديدة وجود سري بين ضباط الجيش. لكنه لم يكن ضمن إحدى كتلها الكبرى بل دخل في مجموعة صغيرة، غريبة في الخريطة الإسلامية المحلية، هي السرورية.

عندما تصاعدت عمليات تنظيم "الطليعة المقاتلة..." ضد النظام، ساحبة وراءها معظم المجموعات الإسلامية في البلاد، لم يقرر السروريون الانخراط رسمياً في المواجهة العسكرية لكن بعض أفرادهم فعلوا ومنهم رضوان نمّوس. فأسهم، بشكل منفرد، في تدريب عناصر "الطليعة" وشارك في بعض العمليات

وإذ يُنسب هذا التيار إلى الشيخ الدرعاوي محمد سرور زين العابدين، فإنه من المعروف أن نشاط هذا الداعية برز في مهجره السعودي بشكل أساسي حيث انتشر بكثافة. وعلى الرغم من ذلك ظلت مجموعتان صغيرتان من المؤمنين بأفكاره القائمة على دمج الإخوانية بالسلفية وأنتجت التيار السلفي الحركي المعروف. كانت هاتان المجموعتان السوريتان وقتئذ قرب دمشق، في بلدتَي التل ومضايا، بعد أن غادرتا جناح الإخوان الدمشقيين المحسوب على عصام العطار.

وعندما تصاعدت عمليات تنظيم "الطليعة المقاتلة..." ضد النظام، ساحبة وراءها معظم المجموعات الإسلامية في البلاد، لم يقرر السروريون الانخراط رسمياً في المواجهة العسكرية لكن بعض أفرادهم فعلوا ومنهم رضوان نمّوس. فأسهم، بشكل منفرد، في تدريب عناصر "الطليعة" وشارك في بعض العمليات. حتى حامت حوله الشبهات فسرّح من الجيش برتبة رائد، وما لبث أن لوحق.

كان عبد الرحمن طالباً في السنة الأخيرة بكلية الحقوق في جامعة دمشق، متديناً وغير منتم تنظيمياً، عندما اعتقلته المخابرات العسكرية كرهينة للضغط على أخيه البكر، حيث أمضى ثلاثة أشهر قبل أن تدفع عائلته رشوة لإطلاق سراحه. لكن الشبان الأربعة في الأسرة، أبناء إمام مسجد البلدة والتاجر المتوسط والموظف السابق في الجمارك، وجدوا أنه بات عليهم السفر إلى الخارج. وأثناء ذلك قُتل أصغرهم، منير، في صدام مسلح مع الجيش، ونجا رضوان وعبد الرحمن وشقيق ثالث ووصلوا إلى عمّان.

بعد ذلك ستتقاطع مسيرة الأخوين وتتجاور. لن يطيق أبو فراس البقاء ساكناً في العاصمة الأردنية فغادر إلى أفغانستان عام 1981 ليصبح من أوائل الجهاديين العرب وينشغل بالتدريب بفعل خبرته السابقة. أما أبو صهيب فأتم دراسته في جامعة بغداد بعد قرار صدام حسين بالسماح للطلاب السوريين، من الإخوان وبيئاتهم أساساً، بدخول الجامعات العراقية في الصفوف السابقة التي كانوا فيها.

ورغم أنه لم يُمض في هذا البلد سوى عام واحد إلا أن مشاعر إيجابية مستمرة سكنت صدره، منذ ذلك الحين، تجاه العراق الذي كان يخوض حربه، ودعايته، ضد إيران. وفي هذه الحملة اشتهر كتاب، طبع مراراً، بعنوان "وجاء دور المجوس"، شكّل دعماً إسلامياً سنّياً قوياً للحرب على طهران. ظهر باسم مؤلف مستعار هو "عبد الله الغريب"، الذي كان الشيخ سرور ذاته.

سيلحق عبد الرحمن بشقيقه ولكن إلى باكستان، حيث عمل في منظمة إغاثية. وكذلك سيعمد أبو فراس إلى قضاء وقت أطول في مدينة بيشاور الحدودية حيث أسس دار نشر موجهة تولت طباعة كتاب "الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا" الذي صدر بالاسم المستعار "عمر عبد الحكيم"، الذي تخفى وراءه أبو مصعب السوري، الاسم المستعار الشهير، كذلك، لمصطفى الست مريم. وحتى ذلك الوقت كان رضوان ما زال سرورياً. ويحفظ لنا الأرشيف الصوتي لجلسات الجهاديين العرب الكثيرة والمفعمة بالمناظرات في بيشاور نقاشاً دار بين الرجلين، أبي مصعب وأبي فراس، دافع فيه نمّوس عن منهج الشيخ سرور.

حاز عبد الرحمن الماجستير في الدراسات الإسلامية من جامعة البنجاب بباكستان، التي سيغادرها في منتصف التسعينيات إلى اليمن. في حين سيتأخر شقيقه في اللحاق به نحو عقد من السنين متّن فيه علاقاته مع الجماعات الإسلامية الباكستانية إلى درجة مكّنته من لعب دور ضروري عقب التدخل الأميركي في أفغانستان عام 2001، وهو تأمين مساكن لعوائل الجهاديين العرب المشرّدين إثر ملاحقتهم بعد عمليات 11 أيلول.

حين اندلعت الثورة السورية كان الاثنان في صنعاء؛ عبد الرحمن مدرّس في معهد شرعي أهلي وأبو فراس تاجر. كانا ممنوعين من دخول البلاد تحت طائلة الاعتقال. لكن الأستاذ كان قد أرسل اثنين من أولاده، قبل سنوات، ليعيشا في بلدهما فانخرطا في الثورة حتى قُتل أحدهما، منير الذي يحمل اسم عمه الفقيد، أثناء تغطية إعلامية في مضايا في مطلع 2013. في وقت كان عمه الأكبر يستعد فيه للاستقرار نهائياً في المناطق المحررة شمالي سوريا، مصطحباً عائلته.

شهد ربيع ذلك العام الانشقاق الأكبر في التيار الجهادي بين "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام". وطلب أيمن الظواهري، أمير تنظيم القاعدة، من أبي خالد السوري (أبي عمير الشامي، محمد بهايا) أن يلتقي طرفي الخلاف ويقدّر الموقف، وشارك أبو فراس في الرأي. لم يكن الاثنان عضوين في القاعدة لكنهما كانا "أخوين" موثوقين. وقد اتفقا على نصح الظواهري بقبول بيعة "جبهة النصرة" كممثل للتنظيم في سوريا وأمر الجماعة العراقية بالعودة إلى ما وراء الحدود.

وكما هو معروف رفضت داعش التحكيم وحاربت فرعها المنشق دون هوادة، وقتلت أبا خالد الذي كان قد انضم إلى "أحرار الشام". أما أبو فراس فقد أخذ الخطوة الأخيرة بالتحول من السرورية إلى السلفية الجهادية وبايع "جبهة النصرة" في وقتٍ كانت بأمسّ الحاجة إلى شخصيات جهادية ذات سابقة فضمّته إلى مجلس الشورى وعيّنته ناطقاً رسمياً. وهو الأمر الذي عادت عنه سريعاً بعد ذيوع تصريحاته المتشددة ضد فصائل مختلفة لوّح بتكفيرها للاشتباه بمهادنتها للعلمانية.

أبو فراس السوري

في نيسان 2016 قصفت طائرة أميركية اجتماعاً، في ريف إدلب، فقتلت أبا فراس وأحد أولاده وقادة آخرين في "جبهة النصرة" التي كانت تدرس، في تلك المرحلة، فك ارتباطها بتنظيم القاعدة. كان نمّوس من أشد معارضي هذا القرار الذي سيُتخذ بعد ذلك بأشهر مؤذناً بتباعد متزايد للجبهة عن القاعدة وصل إلى درجة التضييق على فرع الجماعة الأم الجديد "حرّاس الدين" واعتقال قادته، ومنهم "أبو عبد الله السوري" الابن الآخر لأبي فراس.

أثناء ذلك كان عبد الرحمن يحوز شهادة الدكتوراه من إحدى الجامعات في تركيا، ويدوّن كتابه الذي عرضه يوم الثلاثاء الفائت، موضحاً أنه كتبه، كما قال في الإهداء، إلى "النشء من هذه الأمة". يبدو أن هذا صحيح فعلاً من الإقبال الشبابي الإسلامي على الكتاب الذي نفدت طبعته الأولى خلال عام، كما يظهر أيضاً في طريقة تأليفه التي جاءت مدرسية. ففي كثير من الحالات يكتفي المؤلف باستعراض الأحداث دون تحليل، إلا حين يحتاج الأمر إلى إضافة اللمسات السرورية التي تفهم تاريخ المنطقة كتآمر سياسات لا تنافس أفكار، بل كتناحر طوائف لا حرب سياسات حتى.

لا غرابة. فالكتاب، في نهاية/بداية المطاف، بتقديم الدكتور محمد العبدة، الرجل الثاني في السرورية بعد مؤسسها.