icon
التغطية الحية

كيف أسهم غياب النقابات العمالية في تدهور مستقبل الشباب شمال غربي سوريا؟

2024.02.26 | 06:05 دمشق

آخر تحديث: 26.02.2024 | 11:27 دمشق

عامل في معمل قص رخام شمال غربي سوريا (تلفزيون سوريا)
عامل في معمل قص رخام شمال غربي سوريا (تلفزيون سوريا)
 تلفزيون سوريا - خاص
+A
حجم الخط
-A

فشلت النقابات العمالية في أرياف حلب الشمالية والشرقية عن تحقيق أي منافع حقيقية للعمال في شمال سوريا، الخاضع لسيطرة المعارضة السورية، إذ ما تزال الطبقة العاملة بأجر يومي (مياومة) تشتكي من سوء وضعها الاقتصادي، وغياب فرص العمل وندرتها، إضافة إلى استغلالهم من قبل أصحاب رؤوس الأموال، وسط غياب دور المؤسسات الرسمية في تأمين فرص عمل للعاطلين.

ومع وجودٍ يوصف بالشكلي للنقابات العمالية المشكلة في أرياف حلب الشمالية والشرقية، تشير الوقائع والشهادات إلى أنها بقيت فارغة من مضمونها وجوهرها، عاجزةً عن تحقيق منافع لمنتسبيها كـ"الدفاع عن حقوقهم"، وهو السبب الرئيسي والمبرر لتشكلها، وبالتزامن مع العجز باتت الجهات الرسمية أيضاً غائبة هي اﻷخرى عن الدعم وحتى التعاون.

أجور زهيدة وضياع حقوق

تتنوع القصص والحكايات التي يعيشها الشباب السوري في الشمال السوري، والعنوان العريض اﻷبرز الذي يتم الحديث عنه وتأكيده يتمثل بعبارة "أجور زهيدة وضياع حقوق"، إذ يعمل الشاب "سامر اﻷعرج" من مهجري ريف دمشق، وهو أب لـ3 أطفال ليلاً في فرن آلي للخبز في بلدة كفر كرمين غربي حلب (38 كم)، وبأجر أسبوعي قدره 600 ليرة تركية ما يعادل (20 دولاراً أميركياً)، وأمّا نهاراً فيعمل صانعاً في مكتب لييع السيارات، وبأجر أسبوعي لا يتجاوز 300 ليرة تركية (10 دولارات أميركية).

اﻷعرج يؤكد لموقع تلفزيون سوريا أن مجموع أجوره الشهرية في كلا العملين وفي أحسن أحواله، لا يصل إلى 100 دولار أميركي، لافتاً إلى أنه يعاني بشكل كبير في مواجهة الغلاء المعيشي الذي يفرض سطوته على المنطقة والذي يتزامن مع ارتفاع الأسعار إثر انهيار سعر صرف الليرة التركية أمام الدوﻻر اﻷميركي بشكل دوري، على حد قوله.

يقول اﻷعرج إن الظروف المعيشية الصعبة أثرت بشكلٍ كبير على علاقته بزوجته، التي بدت مؤخراً مستاءةً وتشعر بالضغط النفسي، والذي وصل الحال في أحد اﻷشهر أو كاد، إلى أن ينتهي بالطلاق لوﻻ تدخل الأقارب، منوّهاً أن الأمر يتكرر شهرياً لا سيما عندما نتحدث عن إيجار المنزل، وضرورات الحياة، كالماء والكهرباء ومصاريف المدارس للصغار.

يلتقط اﻷعرج سيجارةً ويشعلها ويكمل حديثه: "أبحث بين الحين واﻵخر، عن فرصة عملٍ أفضل، لكنني إلى اليوم لم أجد اﻷنسب، بل على العكس فالفرص متشابهة واﻷجور متقاربة، وﻻ يوجد جهة رسمية تضمن حقوقنا من أصحاب المهن والحرف".

بدوره يؤكد الشاب "عصام الكيال" (32 عاماً) وهو متزوج ولديه طفلان، وهو من مهجري كفر بطنا بريف دمشق، أن ساعات عمله في إحدى ورشات البناء تزيد على 7 ساعات يوميا، لافتاً إلى أنّ هذه المهنة تحتاج إلى بذل جهدٍ عضليٍّ مضاعف.

ويتطلب عمل الشاب عصام، بحسب قوله إلى غذاءٍ وساعات نومٍ كافية، إذ تتلخص مهمته اليومية بحمل مواد البناء (أكياس الرمل والإسمنت والحجارة)، وﻻ تزيد يوميته على الـ100 ليرة تركية، معتبراً أن المبلغ زهيد مقارنة بالجهد المبذول والغلاء الفاحش.

ويجمع كلّ من اﻷعرج والكيال، أن فكرة البقاء دون عمل، أو حتى رفض عملهم الحالي، على مساوئه أو كما وصفه "الكيال" بلهجته الدمشقية (على علاته)، خيرٌ من مواجهة مرارة الغلاء وحرمان أسرتهما فيما لو جلسا في منازلهم.

بينما يقول اﻷعراج إن أرباب العمل ﻻ يناقشون اﻷجر وإن الرفض بالنسبة لهم يعني "التكبّر"، فهناك الكثير من الشباب العاطل عن العمل الذي ينتظر فرصة مهما كانت لسد الرمق ولذلك لا نناقشهم بالأجور.

غياب التأمين والضمان الصحي

حال الشابين "اﻷعرج والكيال"، ﻻ يختلف عن آلاف السوريين في الشمال المحرر، والعاملين بالـ"مياومة"، فجميعهم يشترك بزهد اﻷجور وضياع حقوقهم، وخاصة في حال التعرض ﻹصابة عمل، أو توقف المشروع العاملين فيه من طرف رب العمل، في ظل غياب فكرة "التأمين والضمان الصحي"، لاسيما في حال حدوث إصابة عمل خطيرة.

وفي هذا الجانب، يحدثنا الشاب "عدنان ماضي" الذي يسكن مدينة الدانا شمالي إدلب (35 كم) والذي يعمل عتالاً، أنه أصيب العام الفائت أثناء عمله وتعرض لكسرٍ في الحوض واضطر إلى إجراء عملية جراحية لتركيب أسياخ حديدية لقدمه، مع كسر في ريش الصدر، أبقته طريح الفراش، وﻻ تزال مضاعفات اﻹصابة حتى اليوم تعيقه عن العمل.

وأضاف ماضي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن رب العمل لم يتعرف على إصابته، ولم يقدم أي تعويض رغم أنه سقط في أثناء تأدية العمل، اﻷمر الذي رتب عليه ديوناً ﻷهل زوجته في تركيا.

وأمّا الشاب سامر منصور وهو طالب جامعي يدرس في كلية الحقوق ويعمل في مقهى غربي حلب، يروي لموقع تلفزيون سوريا معاناته أمام ضعف اﻷجور وتدنيها، مقارنة بما يترتب عليه من تكاليف لقاء متابعة تحصيله العلمي، اﻷمر الذي أخّر تخرجه، وتوقف لفتراتٍ متتالية، على أمل تحصيل مبلغ يساعده في إتمام دراسته.

يؤكد المنصور في حواره مع تلفزيون سوريا أنه ورغم عمله في المقهى، الذي يتناقض ويختلف حتى مع طبيعة دراسته الجامعية، لمدة تزيد على 12 ساعة يومياً، ﻻ تتجاوز شهريته الـ 80 دولاراً أميركياً.

ويستنكر المنصور غياب النقابات العمالية، التي يرى في تشكيلها بهذه المرحلة دوراً محورياً في الدفاع عن حقوق العاملين، وضبط إيقاع العمل والعلاقة بين العامل وصاحب رأس المال.

وكان حدّد تقرير لـ"منسقو استجابة سوريا" أن خط الفقر المدقع في شمالي سوريا هو 5981 ليرة تركية، في الوقت الذي لا يحصل فيه العامل على أكثر من 3000 ليرة تركية في حال توفر العمل طوال أيام الشهر.

مجرد شعارات فارغة من الجوهر

من وجهة نظرٍ اقتصادية فإن شمال غربي سوريا يفتقر إلى خطة اقتصادية واضحة وبيئة عمل مهنية تفسح المجال لمختصي العمل اﻻقتصادي بتحديد شروط وضوابط وآليات العمل والتي من شأنها أن تحقق الموازنة والعدل بين العامل ورب العمل، بحسب الخبير اﻻقتصادي عروة العظم.

يقول العظم في حديث مطوّل مع موقع تلفزيون سوريا إن توسع الفجوة بين الدخل المتدني وأسعار السلع والمواد الأساسية تضاعف بعد منتصف العام الماضي مقارنة بعام 2022 بشكل كبير، وذلك بسبب الانهيار الذي طرأ على سعر صرف الليرة التركية في تلك الفترة، منوّهاً إلى أن معظم العمال وخاصة "المياومين" يحصلون على الأجرة نفسها، رغم الارتفاع الكبير الحاصل في جميع الأسعار بدايةً من المواد الغذائية وأسعار الوقود والمواصلات وأجرة المنزل والكهرباء والإنترنت، وباقي مقومات الحياة الأخرى الضرورية.

وأكّد على أن منطقة شمال غربي سوريا سواء "إدلب وأرياف حلب" تفتقر حقيقةً للبنى التحتية التي دمرتها الحرب خلال السنوات الماضية، إضافةً إلى افتقار الشمال السوري للمشاريع الصناعية الكبيرة من معامل ومصانع، التي من الممكن في حال وجودها أن تستقطب عدداً من العمال، حيث يعتمد السكان ومعظمهم مهجرون قسريون على المساعدات الإنسانية، الأمر الذي عمّق أساس المشكلة وأدّى إلى تردي واقع المواطنين المعيشي.

نموذج لشتات السوريين

ويشير العظم إلى أنه "ورغم تنامي وظهور بعض التشكيلات التي تطلق على نفسها اسم "نقابات عمال" والتي إلى اليوم لا نعلم من يديرها وأين مكان عملها، إﻻ أنها تبقى أجساماً، تحمل اﻷهداف ذاتها، مع إضافاتٍ ربما تكون بسيطة إن وجدت، ما يجعلها نموذجاً صادقًا للمشهد السياسي والعسكري للواقع السوري المشتت".

ويرجع العظم سبب هذا الشتات الذي تعيشه "النقابات العمالية"، إلى بعض اﻻختلاف في التوجهات وبدقة أكبر "الشكليات وأحياناً الصلة بالحكومة المؤقتة أو حتى بعض الفصائل"، إضافة إلى كون السوريين لم يعيشوا تجربة بناء النقابات العمالية التي بقيت لما يزيد على خمسة عقود حكراً على حزب البعث الحاكم، الذي أفرغها هو اﻵخر من مضمونها وجوهرها، وجعل منها حالةً ميتة، ومجرد كيان ومناصب.

واعتبر أن غياب نقابات العمل أثر سلباً في ضبط إيقاع العلاقة بين رب العمل والعامل في إدلب تحديداً، الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام وجناحها الإداري أو الحكومي المتمثل بحكومة اﻹنقاذ.

ويرجع السبب في هذا بحسب العظم إلى غياب الرؤية وانعدام التجربة في ممارسة العمل الحكومي، واﻻفتقار إلى الكوادر والخبرات أو تهميشها، اﻷمر الذي شوّه الشمال السوري المحرر، وأثر بالتالي سلباً في واقع العمال المعيشي، وأفرز طبقات مفقرة في المجتمع مهضومة الحقوق وﻻ يوجد من يرعاها أو يمثلها.

النقابات حبر على ورق

يقول الناشط الإعلامي "فرات الشامي" إن النقابات العمالية بدأت نشاطها في منطقة "درع الفرات" شمالي وشرقي حلب، فعلياً في نهاية عام 2019 بعد مبادرات أطلقتها المجالس المحلية في العديد من المدن أبرزها "مارع واعزاز وجرابلس وصوران"، بهدف تنظيم شؤون العمال والحفاظ على حقوقهم والحد من البطالة.

ولفت الشامي في حديث مع موقع تلفزيون سوريا إلى هذه العبارات التي تغنت بها، لم تكن سوى مجرد حبر على ورق، إذ غاب بشكل تام دورها الحقيقي على أرض الواقع، بالإضافة إلى أنها لم تحظ باستقلالية تامة، مضيفا أنها عبارة عن "أدوات مهامها تنفيذ القرارات الموجهة إليها من قبل المجالس المحلية العاملين فيها".

وخلال إعداد هذا التقرير لم نتمكن من الوصول إلى أي معرّف لتلك النقابات أو التوصل إلى أحد المسؤولين فيها في شمال حلب، إذ نفى معظم من تحدثنا إليهم وجود هذا الجسم في مناطقهم.

إفرازات الواقع السلبية

وفي هذا السياق، دفع غياب فرص العمل وقلة الأجور إلى توجه مئات الشبان المتزوجين وغير المتزوجين إلى الالتحاق بصفوف هيئة تحرير الشام وتفضيلها على الفصائل التي تتبع للجيش الوطني السوري لأسباب عديدة تتلخص في "السلطة واﻻمتيازات إضافة إلى اﻷجور الأفضل نسبياً مقارنة بما يحصل عليه المنتسبون إلى الجيش الوطني السوري"، وهو ما أجمع عليه شبان استطلع آراءَهم موقعُ "تلفزيون سوريا".

ومن بينهم شاب يبلغ من العمر 22 عاماً -فضل عدم ذكر اسمه لدواعي السلامة- يعمل مع هيئة تحرير الشام في منطقة إدلب، يقول "إن ارتفاع راتب العنصر في تحرير الشام، مقارنة بأجر العنصر المنتسب للجيش الوطني السوري ووصوله إلى الضعف، تعتبر ميزة في هذه الظروف المعيشية القاسية، حيث يبلغ الراتب الشهري 100 دوﻻر أميركي للمتزوج، و75 دولاراً للعازب.

ولفت الشاب أثناء حديثه مع موقع تلفزيون سوريا إلى أن الرواتب أو ما يعرف باسم "المنح" تصل مع بداية كل شهر، ناهيك عن كون أيام "الرباط" ﻻ تزيد على 10 أيام بالشهر الواحد، بالإضافة إلى أن الهيئة تمنح سلة إغاثية كل شهر ودون انقطاع أو تأخر، سواء كان عازباً أو متزوجاً، بعد إلزامها للمجالس المحلية التابعة لحكومة الإنقاذ بتسليم جميع العناصر المنتسبة لصفوفها سللاً إغاثية.

ومن جهةٍ أخرى، يكشف أحد عناصر تحرير الشام، فضل عدم ذكر اسمه أيضاً، في حديثه لـ تلفزيون سوريا، أن هناك امتيازاتٍ معنوية تُمنح للمنتسبين في صفوف الهيئة، كتسيير أمورهم في جميع المؤسسات الرسمية وغيرها داخل إدلب الخاضعة لنفوذ حكومة اﻹنقاذ، فضلاً عن سهولة العبور عبر الحواجز اﻷمنية المنتشرة دون تفتيش أو عرقلة.

على الطرف المقابل؛ يختلف الحال بالنسبة للشباب المنتسبين للجيش الوطني السوري، وخاصة فيما يتعلق بالرواتب التي عادة تصل متأخرة أو متقطعة بحسب أحد الشبان المنتسبين لصفوف جيش المجد التابع للجيش الوطني السوري، الذي يؤكد أنهم ﻻ يحصلون حتى على سلة إغاثية.

وتتراوح اﻷجور الممنوحة للمنتسبين إلى صفوف الجيش الوطني ما بين 1000 ليرة تركي إلى 1200 ليرة تركي. وفقاً للشاب البالغ من العمر 26 عاماً، الذي يؤكد أنها بالكاد تسد أجور المواصلات والتنقل.

نظرة سلبية ولكن

ومع غياب البدائل في سوق العمل، يؤكد معظم من استطلعنا رأيهم في إدلب أن النظرة لهم اليوم في مناطقهم توحي بعدم الرضا، وأن القليل من معارفهم يفهمون سبب انتسابهم لصفوف الهيئة ويعذرونهم.

إﻻ أنّ المؤسف بحسب الشاب "عبد الرحمن" -رفض كشف اسمه كاملاً لدواع أمنية- أنه مؤخراً رفض زوج عمته، تزويجه من ابنته، فقط لكونه أحد عناصر تحرير الشام التي ينظر إليها على أنها كانت سبب باستئصال بعض الفصائل الثورية.

عملياً، يلخص المشهد السابق واقع الشباب السوري في ظل غياب المؤسسات المدنية الحقيقية، التي تدير السوق، كـ"نقابات العمل"، فضلاً عن عدم وجود دعم حكومي أو تعاون في هذا الملف، كما هي الرواية التي سادت في شمال سوريا.

يشار إلى أن أبرز النقابات التي تشكلت مؤخراً، هي نقابة الصيادلة، نقابة الصاغة، ونقابة المهندسين الزراعيين، إضافة إلى نقابة الفلاحين، ونقابة الأطباء البيطريين، نقابة النحالين، وكذلك نقابة المكاتب العقارية، التي تسعى وفق أهدافها المعلنة إلى التعاون مع المجالس المحلية التي تعتبر الجهة الرسمية الإدارية لها لتسيير وتيسير مصالح المنتسبين لها.

ولكن على أرض الواقع يجمع من استطلع رأيهم موقع تلفزيون سوريا أن الطموحات كانت أكبر من اﻹمكانيات والقاسم المشترك حتى تاريخ إعداد هذا التقرير "غياب الثمرة المرجوة والنتيجة المرضية".