"كرنفال" لبنان أو الثورة نمط عيش وفرجة

2019.11.23 | 17:27 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما أعرفه أن مهندسة بيروتية نشطة، عملت مع شلة صغيرة من أصدقائها، الذين ينتمون إلى مجتمع المهن الحرّة، وتترواح همومهم بين أندية بيئية ومؤسسات ثقافية وجمعيات حقوقية وحركات نسوية وروابط أهلية.. اقترحت فكرة تنظيم سلسلة بشرية يوم 27 من تشرين الأول، تمتد من أقصى شمال لبنان إلى جنوبه. وعلى الفور، تلقف الناشطون في الثورة اللبنانية هذه الفكرة، وعملوا على الترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام.

كانت الاستجابة لهذا النشاط موضع امتحان جدّي لمقدرة الثورة على التعبئة والحشد وجذب مئات الآلاف إليها والالتزام بالوقوف لساعات عدة في ذاك النهار، على طول الخط الساحلي. وهو امتحان "سياسي" بامتياز، طالما أن السلسلة البشرية هذه ستجمع و"توحد" رمزياً المناطق والطوائف والطبقات الاجتماعية تحت راية الانتفاضة الشعبية ومطالبها. كما أنها كانت امتحاناً "أمنياً" إذ سيكون نشاطاً واسع المساحة وخارج حيز الساحات وأماكن الاحتشاد. وأعداء الثورة من الشبيحة و"الزعران" وأتباع بعض السلطة، أظهروا مراراً ميلاً للاعتداء والعنف، وأحياناً تحت أنظار القوى الأمنية.

عندما تحققت السلسلة البشرية كصورة مذهلة، فاقت توقعات منظيمها، وصدمت خصومها، بدا أن هذه الثورة تفوقت على نفسها في التعبير عن اجتماع اللبنانيين كما لم يجتمعوا من قبل. إذ أنشأت حسياً، يداً بيد وكتفاً بكتف، رابطة وطنية

اكتسبت الثورة جذرية سياسية ما عاد بالإمكان بعدها أن يحشرها النظام في خانة "الحراك المطلبي"

يتم تأليفها للتو، وبإرادة حرة، وفرداً فرداً. وكانت هذه الرابطة الوطنية، المتكونة من أجساد اللبنانيين وحضورهم التعبيري، تحرر أيضاً الجغرافيا اللبنانية من انقساماتها وعزلاتها، أي تصوغ وطناً (أرضاً وشعباً). وعلى هذا، اكتسبت الثورة جذرية سياسية ما عاد بالإمكان بعدها أن يحشرها النظام في خانة "الحراك المطلبي". وعلى مستوى آخر، ما عاد ممكناً للنظام أن يجرّ الثورة إلى لعبة الانقسامات على منوال ما حدث عام 2005، حين نجحت الممانعة في تحويل "انتفاضة الاستقلال" إلى صراع محاور إقليمية ودولية، عُرف بانقسام 8 و14 آذار.

وبالعودة إلى المجموعة التي نظّمت السلسلة البشرية، فإن سمتها المهنية والمدنية والثقافية واهتماماتها المتراوحة بين العناوين الإصلاحية الحقوقية والبيئية والجندرية والتنموية، تضعها خارج المعتاد السياسي – الحزبي، أي يستحيل وصمها بأي نوع من الفئوية، وتكون عموميتها حائلاً دون تصنيفها خصماً، ودون القدرة على تعبئة جمهور مناوئ لها على نحو فعال. فالسلطة بكل أحزابها وتياراتها، والحال هذه، لم تستطع سوى مدح تظاهرات اللبنانيين، رياء وخبثاً. بل إن حزب الله المتوجس والمستنفر، فشلت (حتى الآن) كل محاولاته لشيطنة الثورة حتى في عيون شطر واسع من جمهوره.

وعلى مثال ما فعلته المهندسة وأصحابها، تقوم الثورة اللبنانية على عناقيد كثيرة من المجموعات والمبادرات والروابط التي نشأت في معظمها في السنوات الأخيرة لتتولى قضايا محددة، كأن نرى حركة ضد المقالع والكسارات، أو حركة ضد مشروع سد مائي مخرب للبيئة، أو حتى مجموعة نسوية ضد أحكام المحاكم الدينية، أو حركات طلابية حصّلت وعياً سياسياً يتخفف من حزبيات الجيل السابق ويتجاوزها.. إلخ. ففي السنوات العشر الماضية، ظهرت حيوية اجتماعية ومطلبية، على الضد من ترهل الدولة وفسادها وانحطاط إداراتها وفشلها.

وفي أثناء الثورة نفسها أيضاً، انبثقت مجموعات وروابط جديدة من قلب النقاشات ومن تدفق الاقتراحات والمبادرات، وعبر تلاقي الأفراد وتعارفهم العفوي. وحدث هذا في المدن والبلدات المختلفة، وتلونت كل ساحة بتلك المجموعات البالغة التنوع والتعدد، إلى حد بات صعباً أي ادعاء تمثيلي للثورة، وبات شبه مستحيل حصرها بمطالب سياسية يمكن المناورة بها أو عليها. فشمولية وتشعب وكثرة "الطموحات" والتطلعات التي تقولها الثورة تنبئ أنها على مثال صورة السلسلة البشرية، أي إعادة تأسيس الرابطة الوطنية والهوية السياسية للجمهورية، وصوغ نظام وسلطة جديدين.

المجموعة ذاتها، صاحبة فكرة السلسلة البشرية، كانت لها أيضاً الدعوة لتنظيم "عرض مدني" في يوم عيد الاستقلال 22 من تشرين الثاني. وتبلورت المبادرة هذه بالتلاقح مع مشاريع كانت تخطط لها مجموعات أخرى، ومنها فكرة تنظيم كرنفال فني طرحها "تجمع مهنيات ومهنيين" إضافة إلى مشاريع كانت تعدها مجموعة من الممثلين والفنانين. وحدث هذا بالتشاور مع مجموعات متوزعة ما بين عكار وطرابلس والبترون وجبيل وجونية وجل الديب وعاليه وبيروت وصيدا وصور والنبطية وراشيا وبعلبك وزحلة.. إلخ.

وتقليدياً، كان يتم إحياء ذكرى الاستقلال في ساحة الشهداء بعرض عسكري وبحضور

أقطاب السلطة يقرّون ضمناً أنهم باتوا عاجزين عن أي تحدٍ للشارع. ويشعرون بعزلة مضنية، وبنبذ تام

أركان الدولة والرؤساء والسلك الديبلوماسي والشخصيات الرسمية. وكان التخوف أن تستغل السلطة المناسبة كي تخلي وسط بيروت من المعتصمين والمتظاهرين وتعيد السيطرة عليه بوصفه المركز الرئيسي للثورة وقبلتها الأساسية.

لكن، على ما يبدو أن أقطاب السلطة يقرّون ضمناً أنهم باتوا عاجزين عن أي تحدٍ للشارع. ويشعرون بعزلة مضنية، وبنبذ تام. ومن إقرارهم هذا بالضعف والغربة عن المواطنين، التجؤوا إلى ضاحية اليرزة، قرب وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، لينظموا احتفالية رسمية بائسة وكئيبة ومحرجة. بدا الوجوم والأسى والتعب على وجوههم فاضحاً إلى حد المهانة.

وتماماً مثل كل حدث مر منذ 17 من تشرين الأول، تأتي الدهشة المدوّخة مما يقترفه اللبنانيون ويبدعون في اجتراحه. هكذا كان يوم 22 من تشرين الثاني، ذروة ثورية جعلت اللبنانيين أنفسهم غير مصدقين لما يستطيعون إنجازه وصنعه في عامّيتهم السلمية. فانتظامهم ككرنفال منظّم، وتدفقهم ألواناً وأطيافاً بشرية، كان عرضاً للزهو بالذات الوطنية (الاحتفال باستقلال لبنان) بتنوعها وفردياتها وهوياتها المؤتلفة والمتباينة على انسجام احتفالي، يختلط فيه السخط والأسى والشكوى بالبهجة والفرح والرقص والهتاف والاستعراض واللهو والترفيه في "مسرح" تمثيلي مترامي الأطراف، كما لو أنهم يبتكرون فرجة على المعنى الفني (ونراه في جاذبية مشاهدته التلفزيونية مثلاً) ومشهدية سياسية تتكون من تعدد الصور والكتل التي ينضوي فيها المواطنون عيشاً ومعتقداً وانتساباً، على مثال "الأفواج" التي قدمها العرض: هواة الدراجات النارية، أو الأمهات، أو قارعي الطناجر، أو الأطباء، أو الممثلين.. إلخ، وهذا كله يعلو السياسة ويعيد تعريفها، أو يستردها إلى ملموس ومحسوس اجتماعي وثقافي وعمراني. كما يحيل السياسة إلى دورها كتواصل وتعارف وتعاون وتدبير لمصالح الجماعة التي ارتضت أن تكون "جماعة"، أي دولة ووطناً وأمة.

وإذ يحرر اللبنانيون السياسةَ من خرافات قاتلة، إنما أيضاً يوقعون خصومهم في عجز مميت. فإذا كان خصم الثورة الأول هو حلف "الممانعة" فهو لا يملك رداً على مبادرة من نوع ما سيحدث اليوم الأحد 24 من تشرين الثاني، تحت عنوان "خبز وملح" وقوامها تنظيم موائد فطور للعامة (كل يأتي بما تيسر له من الطعام) تمتد من أقصى الشمال إلى الجنوب. فهكذا نشاط من الصعب وصفه أنه "أميركي صهيوني" أو "داعشي" أو "تكفيري" أو "مؤامرة على سلاح المقاومة".

هذا مكمن دهشات الثورة اللبنانية وسرها المبهج.