قصص سورية من المنفى: أقراني الرؤساء

2024.04.05 | 05:39 دمشق

27555555555555554
+A
حجم الخط
-A

كان آباؤنا شغوفين بالسياسة لكن من غير انتظام سياسي واحتزاب، وتجلّى انشغالهم بها في تسمية أبنائهم بأسماء الزعماء التي كانوا يسمعونها من الإذاعات في أيام الشتاء ولياليها الطويلة بانتظار الغيث، تفاؤلاً وتيامناً، وقد تعجبت المعلمات الوافدات إلى بلدتنا النائية من أسمائنا الملكية، وهنّ يتفقدن الجند الصغار كل صباح، والتلاميذ يشكون بعضهم بعضا إليها؛ هذا يشكو روزفلت الذي كسر قلمه، وذاك يشكو إيزنهاور الذي يقصفه بالطائرات الورقية، فتغضب الآنسة وتأمر كلمنصو بالجلوس بأدب، وتشرشل بإحضار ولي أمره غدا، وجمال عبد الناصر بالكفِّ عن الثرثرة.

كان ذلك قبل عهد الحركة التصحيحية " المباركة".

هاجر زملائي الرؤساء قبلي بثلاثة عقود، ثم لحقت بهم إلى ألمانيا اضطرارا، تبعثروا في أوروبا، لجأ أكثرهم إلى السويد فهي ألين الدول الأوروبية في منح الجنسية وأكرمها. ذكر لي تيتو أنه تمنى لو كان لجأ إلى اللوكسمبرج، أكثر أصدقائي الرؤساء يعملون في أعمال حرة، مثل إدارة مطاعم، وصالونات حلاقة، وصناعة حلويات، فهم يعيشون من كدّ أيمانهم وليس لهم حرس وجند، عاشوا في المنافي أهنأ عيش، حتى غبطتهم عليها إغباطا، ولعنت الساعة التي قضيت ردحا من عمري في الجامعة، بعلوم لم أنتفع منها بشيء.

دعاني صديقي كمال أتاتورك لزيارته في السويد، وأغراني بلقاء قمة بين الرؤساء القدامى في بيته على شرف زيارتي، فشمّرت إليه، فلم يبق من لذات الدنيا إلا مجالسة الندماء، ومخالطة الأوفياء. التقيت بالأخوين التوءم غيفارا وكاسترو في أوبسالا، لقد أمسى كاسترو فنانا تشكيليا يرسم كائنات غريبة فالفنانون الجدد يجهلون فنَّ التشريح، الفن التشكيلي بات مثل الماء والكلأ والنار، أما إخوه غيفارا فكان يكتب الشعر الحديث الذي لم أكن أفهم منه قليلا أو كثير. فتح تشرشل محلا لبيع الحلويات السورية في أشهر شارع في استوكهولم، أما إيزنهاور الذي كان يصلح السيارات في الديار فعمل في معمل جبنة وذكر لي أنَّ جيرانه السويديين أعجبوا بجبنة الحلّوم والجبنة المسنّرة، ومن بياضها.

أدبَّ بن بيلا لنا في دارته الملكية مأدبة، في يوم يذهب سنا ثلجه بالأبصار، في الريف السويدي على بعد عدة فراسخ من مدينة أوبسالا، وكان يعيش من جِعالة حكومية لابنته التي تعرضت لحادث سير، علمت يومها أنَّ نزيب الوعول يشبه عواء الذئاب. مررنا في أثناء سلوك الطريق إلى دارته، بمحل صيانة دراجات للأخوين الشقيين كورت فالد هايم وترومان، كانا في أيام الصبا يكرّان على قوافل التلاميذ، ويغيران على حقول البطيخ في الصيف، أما أعجب الرؤساء فهو فتوة بلدتنا القبضاي أدولف، وكان لي معه ثأر، فقد كان يؤذيني ويحرمني من سوق البلدة فاضطر إلى سلوك طريق النهر الموحل للخلاص من شره، عرفته بنفسي فلم يعرفني، كان شعره قد ابيضَّ وظهره قد انحنى، ويعيش على المساعدات الاجتماعية، وتعجبت من هجرته المبكرة، كانت قوانين السويد الصارمة وإشارات مرورها وثلوجها قد خصته، وأوهنت كيده، ونزعت براثنه.

علم زميلي القديم موسوليني، من مالمو، بزيارتي، فدعاني فاعتذرت لبعد الشُقة، والحق إني اعتذرت لأنَّ إيفا بروان اتصلت بي، وأعربت عن رغبتها بلقائي، وكانت من جميلات بلدتي، فاستيقظ الحب القديم من رقاده. كان في السويد شخصيات رئاسية من المعارضة السورية، ولي بهم معرفة قديمة، وأحدهم كان جاري قديما، لكني وجدت أن لقائي بالرؤساء القدماء أجدى وأنفع. اعتذرت من دعوة إيفا بروان التي أزرى بجمالها الدهر، ثم اتصلت سيدة شامية غيداء من استوكهولم، في الثلاثين، اسمها صفا مروة، فتعللت بلقاء القمة الرئاسية، وخطر لي دعوتها فاستأذنت السادة الرؤساء، وأريتهم صورتها فرحبوا بها أيما ترحيب، فضربتْ كبد الأرض إلينا، فحشرت لها الملوك فهم يوزعون، فخرجوا يستقبلونها في مفازة بيضاء مثل الصفحة، بسط إيزنهاور سجادة حمراء لحواء الخليقة الثانية على الثلج، وجعلت أقدمهم لها لهم ملكا ملكا، كان الثلج الإمبراطور قد خشع، ووقفت الأشجار باستعداد كأنها حرس الشرف، والوعول تعوي من بعيد.

دهشنا من جمال ملكة الثلج، التي صدق فيها قول دوقلة المنبجي:"كَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت"، قالت لي سنو وايت إن اسمي ليس باسم ملك كأسماء أهل بلدتي وعهدهم مع الأسماء، فهممت بالقول إنَّ اسمها أعجب، فالصفا والمروة من شعائر الله، وكدّت أذكّر "شعيرة الله" بمقولة "زميلنا" شكري القوتلي الشهيرة عن الشعب السوري، وهي: أنَّ نصفهم أنبياء ونصفهم الآخر زعماء، ولا بدَّ لهؤلاء الملوك من نبي يهديهم ويرشدهم، لكن وجدتني أقول:

أنا الشعب يا مولاتي.