قرن أمريكا وتوابعه

2019.11.24 | 16:07 دمشق

amyrka.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا بد من رحلة في بعض غياهب ومحطات القرن  الماضي كي نعرف أين نقف اليوم، وما الذي يجري لنا، ومن يرسم مصير منطقتنا، وربما أين تتجه. وقعت فلسطين تحت الانتداب الإنكليزي حسب اتفاقية سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الأولى. خرج الإنكليز من فلسطين، ولم يتمكنوا نظرياً من تنفيذ وعد بلفور الذي قطعوه لليهود عام 1917. وعندما أُعلِن الكيان عام ثمانية وأربعين، لم يكونوا أول من اعترف به. كان الروس أولاً، ثم تبعهم الأمريكيون.

لم يكن الرئيس "أيزنهاور"، ولا "ترومان" بعده مغرمين بتحمل مسؤولية الكيان الوليد الخبيث، إلا تحت تأثير السياسات الداخلية الأمريكية. وإذا كان الإنكليز قد دعموا الكيان عام 1948 و شاركوه عام 1956 ، بمعية الفرنسيين، في العدوان الثلاثي على مصر؛ فقد كانت أمريكا -لا الروس، كما أُشيع- هي من أوقفت وأزالت آثار العدوان وقتها؛ فهي لم تكن تريد ورطة لإسرائيل ؛ بل أكثر ما أرادت هو أن ينتهي الاستعمار البريطاني - الفرنسي، لتحل محلهما.

منذ هزيمة سبعة وستين، تم التبني الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني؛ فلم تعد إسرائيل وقتها ذلك الكيان الذي يستدعي الرعاية والشفقة والدعم الأعمى؛ فإسرائيل استطاعت أن تهزم ثلاث دول عربية، وأن تحتل سيناء والجولان والضفة الغربية. عندها صدر القرار 242; وجوهره مبادلة الأرض- أو الأصح، مبادلة أرض محتلة بسلام وأمان، واعتراف بديفيد الصغير. لم يمر ذلك إلا باستعادة بعض ماء الوجه، فكانت حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين، وكان القرار 338, وكان "كسنجر"،  وكان الكيلومتر 101؛ وعادت سيناء لمصر، مقابل اتفاق بينها وبين إسرائيل. وقتها كان تعميد حافظ الأسد حاكماً أبدياً لسوريا مقابل حماية الشمال الإسرائيلي، الذي قال عنه "بن غوريون" في مذكراته: "إن الخطر على إسرائيل يأتي من الشمال". لقد تم تعهيد حماية الكيان من الشمال لحافظ الاسد، الذي عجز أمام المقاومة الفلسطينية واللبنانية نهاية السبعينيات، فكان أن تدخلت إسرائيل شخصياً، وطردتهم، وعهّدت الجنوب اللبناني لسعد حداد ثم لأنطوان لحد؛ ليعود الأسد - بالتعاون مع طهران- ويوكلوا المهمة إلى حزب الله؛ ويستمر استعباد لبنان باسم "المقاومة والممانعة". أما الضفة وغزة فكان موعدهما أوسلو- إضافة إلى مفاوضات خلبية بدأت في مؤتمر مدريد ثم في واشنطن؛ ولينجو الأسد من تلك الورطة؛ حيث ما كان بالإمكان استعادة ما تم بيعه وقبض ثمنه كضمانة للحكم الأبدي لسوريا.

كل ذلك كان يتم وأمريكا هي الوسيط والعراب والمتبني والداعم والمؤيد والمؤنب والمتصرف. كانت أمريكا المتصرف، وروسيا المحرتق أحياناً والداعم عسكرياً وسياسياً -ولكن بشكل أخرق- أحيانا أخرى. ففي مؤتمر مدريد عام 1991 مثلاً، كان بين الحضور وزير خارجية "يلتسن" الذي كان أول رئيس سوفييتي آجر بانهيار الإمبراطورية السوفيتية. وهناك، كان كأي وزير خارجية لدولة إقليمية كبيرة/ كما قال أوباما عن روسيا لاحقاً/. 

كان شعار المنطقة السائد والصامد "الفوضى الخلاقة"

كان الأمر بيد الأمريكيين، وهكذا استمر رغم كل هزات المنطقة كاحتلال الكويت وتحريرها، واحتلال العراق، وقتل الحريري، وتمثيليات حزب الله وإسرائيل عند الحاجة، واستمرار خبث إيران. كان شعار المنطقة السائد والصامد "الفوضى الخلاقة". 

دام الوضع على ذلك الحال حتى هبّت عواصف الربيع العربي من تونس إلى مصر وليبيا واليمن؛ وكان زخم العاصفة في سوريا؛ التي ما كان متوقعاً أن تصلها العاصفة بهذا الشكل. فهو تحد لبوليسة التأمين التي حصل عليها الاسد: {أمن وسلام إسرائيل - مقابل حكم أبدي لسوريا} استنفر الجميع: إسرائيل أمريكا إيران روسيا أوربا والعرب. من جانبه، كان نظام الاسد الابن- الذي ورث السلطة، بناء على بوليصة التأمين تلك، غير مستعد تماماً؛ إلا أنه على الفور استعاد أنفاسه، ورفع شعار: أحكمها أو أدمرها". وبدوره المسؤول المالي عن النظام "رامي مخلوف" ذكّر إسرائيل ببوليصة التأمين، عندما أطلق ذلك التصريح بأن /أمن إسرائيل من أمن سوريا/. وهنا قررت إسرائيل أن تنأى بنفسها إعلامياً عن القضية السورية؛ ولكن مسلكها أفصح عن استراتيجيتها: (إما أن يبقى الأسد؛ أو تتحول سوريا إلى حالة كسيحة لا تقوم لها قائمة بعقود)؛ وهنا انسجم توجهها الخفي مع توجه النظام. ولكن هدير حق الشعب كان في كل الأرض السورية؛ إلا أن البوليصة اقتضت خنق صوت الحق ذاك؛ فكان حرمان الشعب من إكمال المشوار وتحقيق هدف التغيير والخلاص من الاستبداد؛ وكان دخول الميليشيات وزرع الاٍرهاب وصولاً إلى الدخول العسكري الروسي.

في ظل كل ذلك، يمكن فهم وتفسير ما تفعله الأيدي المتدخلة بالشأن السوري، وطبيعة مهمتها، ومستوى أهميتها. أمريكا تحرك الجميع بشكل مباشر، أو بالتحكم عن بعد، أو عبر بعضهم البعض؛ هي أساساً التي تحارب مَن كانت تدعمه بالأمس إرهاباً كان أم دكتاتوريةً. روسيا تضع يدها على "النظام الشرعي" والجيش والمقدرات السورية، وتنوء تحت حِمل ملفاتها الثقيلة. وتركيا تحصن حدودها بمنطقة آمنة، وتمحق خطر إرهاب ال بي كي كي، وتعمل على إعادة كتل بشرية سورية بعد مص خيرها. أما إيران فهي التي تستمر بغرس مخالبها أيديولوجياً في الجسد السوري وأجساد عربية أخرى؛ وتقفز من اختناق لآخر. أما إسرائيل فهي التي تحقق ما يتجاوز حلمها، بالإلغاء النهائي لخطر تاريخي كامن اسمه سوريا؛ والأهم أنها تستفيد من الذريعة التي يقدمها الوجود الإيراني في سوريا لتنعش  كذبة "المقاومة والممانعة"، التي عاش عليها كلٌ من نظامي الأسد وملالي طهران. فلم يعد يُقال إن  الرد على عدوانها سيكون في الزمان والمكان المناسبين، بل بقصف المدنيين السوريين حتى في مخيمات اللجوء، كما حدث مؤخرا في مخيم "قاح" شمال إدلب السورية. 

في منطقتنا، ولسبعة عقود خَلَتْ، هناك مُشَغّل أكبر واحد اسمه أمريكا؛ والكل بيدها أدوات طيّعة أحياناً، مناكفة في أخرى؛ تقوم بمهام وسخة، تبيع وتشتري، تحسب حساب المعلّم الأكبر، أمريكا، هاجسها البقاء في السلطة؛ تتعافر أحياناً مع بعضها البعض، أو تتحالف لمصالح مريضة، تنتج الأسلحة والقتلة؛ تبيعها أو تؤجرها؛ وفي النهاية يبقى كرسي الدم هو الأغلى عليها. أما شعوب المنطقة -وخاصة السوري من بينهم- فليسوا إلا أرقاماً بلا قيمة أو حقوق. وهذا مخالف للطبيعة وللقانون، ولكل ما هو بشري أو إنساني. لقد طال الزمان على هذا الحال؛ ومؤكدٌ أنه لن يدوم.