فَغْنرةُ العالم والقوى الرديفة لسلطة الدولة

2023.08.05 | 06:31 دمشق

فَغْنرةُ العالم والقوى الرديفة لسلطة الدولة
+A
حجم الخط
-A

لافتةٌ تلك التحولات، التي تمر بها شركة "فاغنر" في الشهور الأخيرة، والأدوار التي أخذتها في أوكرانيا وسوريا من قبل، وما ينسب إليها من أدوار في ليبيا وسواها، وكذلك مناصرتها لقوى "حميدتي" في السودان، والتصريحات التي يطلقها مرتبطون بها عن إمكانية تطويع الأوضاع في الدول الإفريقية لمصلحة الأقوى ومن يدفع والعسكري الذي يحكم أو يطمح للحكم، بعدد قوات قليل وبوقت قصير.

وما يزيد من غرابة ما يحدث محاولتها الانقلابية في روسيا ومآلاتها وما رشح عنها، التي تبدو أقرب لورقة ضغط على بوتين "فيما لو سلمنا بالرواية الانقلابية" بل إن انتقال جزء من قواتها بسرعة من روسيا إلى روسيا البيضاء ولّد أسئلة جديدة أخرى بحيث باتت مصدر قلق جديد لأوروبا وبولندا خاصة.

ومثل هذه التحولات الفاغنرية السريعة ملائمة لنظام الشركات والاستثمار، حيث هي ليست مؤسسة دولة، لأي تحرك من تحركاتها حسابات محددة وواضحة وتقاطعات كثيرة مع منظومة الدول.

لا تشبه منظومة عمل شركة فاغنر بطابعها المافيوي شركة بلاك ووتر الأميركية للحراسات، لأن الشركة الأميركية لها نظام واضح ومحدد وتعمل بمهام يحددها الجيش الذي تتعاون معه كما حدث مع الجيش الأميركي، على الرغم من تاريخها الأسود في العراق ومخالفاتها وجرائمها.

تفتح شركة فاغنر باباً جديداً في الاستثمار وهو الاستثمار في السيطرة، وكذلك الحرص على حماية المصالح، وهو تحول اقتصادي واجتماعي لافت، يلفت النظر إلى نوع جديد من الاستثمار دافعه اقتصادي ومادي محض

ومن يعيش في الغرب يكتشف أن معظم الحراسات للأندية الليلية والكثير من الشركات والجهات الحكومية تتولاها شركات أمنية (السكيورتي) لها منظومة عمل محددة وصلاحيات وتتعامل مع الشرطة، وهنا كشروط محددة للترخيص لها، وتعتمد المطارات كذلك على مثل هذا النوع من الشركات الأمنية التي تشكل نوعاً من تكليف الأشخاص بحماية أعمالهم وأنفسهم في حال رغبوا بالقيام بنشاطات محددة قد يتسم طابعها بالخطر، أو أن يفقد المشاركون بها شيئاً من تحكمهم وبالتالي قد يغدون خطراً على الآخرين كما يحدث في العديد من الأندية الليلية في أوروبا.

تفتح شركة فاغنر باباً جديداً في الاستثمار وهو الاستثمار في السيطرة، وكذلك الحرص على حماية المصالح، وهو تحول اقتصادي واجتماعي لافت، يلفت النظر إلى نوع جديد من الاستثمار دافعه اقتصادي ومادي محض.

ربما نتذكر في هذا السياق استثمارات بدوافع دينية كما هي الحال في التنظيمات الدينية العابرة للحدود.

وكذلك نستحضر تنظيمات بدوافع إيديولوجية أو فكرية أو حزبية كما حالة العديد من التنظيمات اليسارية، وهناك تنظيمات بدوافع قومية كما حالة جانب من جوانب قسد مثلاً.

نمو التنظيمات التي تحاول أن تأخذ مكانة الدولة لا ترتبط بالربيع العربي وارتداداته فحسب بل تعود إلى ما قبل ذلك، ولعل إيران بعد ثورة الخميني أبرز من وظف ذلك كما هي الحالة في حركة أمل وحزب الله، غير أنها بعد أن تحقق أهدافها أو جزءاً منها، أو تعقد الدولة الرسمية اتفاقات مع الخصم، من سيعيد هذه القوى إلى جناح الدولة لتكون جزءاً منها أو تتلقى أوامرها من سلطة مركزية؟

وجدت إيران في الربيع العربي وارتداداته فرصة كبيرة لتطوير تجربتها في هذا السياق وتعزيز شركات دينية مافيوية مهمتها العسكرة والبحث عن اقتصاد ريعي مركب هو اقتصاد الممنوعات والمخدرات والتعفيش، فسارعت بإنضاج فكرة الحشد الشيعي لمحاربة داعش، وتمويله من ميزانية العراق، وبات يشكل دولة داخل الدولة وينتج رؤساء وزراء وسواهم، بحيث إنه بات هو الوجه العسكري للعراق وأقوى من الدولة بأجهزتها الرسمية. وفعلت ذلك في اليمن بحيث انقلبت القوى الموالية لها على نظام الحكم واستلمته، في حين غدت تلك القوى رديفاً للنظام الحاكم في سوريا وجزءا من سياسة إبقاء النظام على ما هو عليه، وباتت تلك الميليشيات لها اقتصادها الخاص الذي يقوم على التهريب و"الخوة" المافيوية بحجة التبرع لآل البيت وحمايتهم.

وليست إيران المستثمر الوحيد في مجال الميليشيات بل إن تركيا كذلك دخلت على الخط وحولت مسار العديد من الميليشيات في شمالي سوريا ليكونوا أداة لها في ليبيا مثلاً بهدف الوقوف مع الجهات التي تدعمها تركيا هناك، وما على الجانب التركي سوى التنظيم والتسليح أما الجانب المالي فيتحمله الليبيون ويمول التسليح والرواتب والحياة اليومية من النفط.

لا أحد يعرف إن كانت شركة فاغنر المافيوية قياساً لتلك الشركات الدينية أفضل السيء المافيوي الموجود في سوق الميليشيات العابرة للحدود أو أسوأه، كونها أكثر وضوحاً حيث إن مهمتها الرئيسية المشاركة في الحرب وحماية الموارد الطبيعية للقوة المسيطرة مقابل نسبة محددة، ولها أصول وقواعد عمل وتراتبية قيادية محددة تلتزم بها.

من نافل القول أن نقول: إن القتل والمجازر في سوق الميليشيات جزء من عملها ووجودها والتسويق لها، فكلما كانت ذات طبيعة إجرامية أكثر، ومحققة لسياسة الانتصار للجهة التي وقعت عقداً معها كلما منحها الفرصة لعقود جديدة، وربما هذا الذي جعلها ترتكب مجازر مؤلمة في سوريا مثلاً، وكونها شركات غير مرخصة ذات طبيعة مافيوية يعفيها من المحاسبة المباشرة نتيجة ارتكابها تلك المجازر.

ولعل ما قامت به الميليشيات التي تتبع لإيران من مجازر بحق السوريين يكشف جوانب أخرى من مشكلات عمل الميليشيات، وإن كانت لا تتفرد بها وحدها، فما قام به جيش النظام السوري مثلاً من مجازر بحق السوريين المعارضين لنظام الحكم والثائرين عليه لا يقل عن مجازر تلك الميليشيات، لكن تلك مشكلة خاصة بسوريا لأن جيشها مشكل بطريقة ميليشياوية عقائدية طائفية يجعل من إبادة الآخر المختلف حقاً من حقوقه ومصدر اعتزاز. بل إنه قدم نموذجاً جديداً حيث إن الميليشيات تداخلت معه وصارت جزءاً من إدارته وتفكيره، بل إن عدداً منها تم ضمها إليه.

بعيداً عن مفاهيم العالم الأول والثاني والثالث؛ فإن تأمل المشهد العالمي يكشف أنه ينقسم إلى عدة أقسام لعل أبرزها قسمان:

  • قسم فيه حياة مدنية ديمقراطية ودولة رعاية اجتماعية يقضي شبابه عطلهم الصيفية بالرقص والاستمتاع على الشواطئ، ينامون هانئين مرتاحي البال، كل شيء فيه مؤمَّن!
  • قسم ينشغل أبناؤه بالحروب والانقلابات والرعب، تمر سنوات عمرهم كدحرجة الصخور على حافة جبل، ويجاورهم نسبة قليلة من أبناء بلدهم ينعمون بكل ما هو موجود في القسم الأول لكن بعيداً عن سياقاته وتم الحصول عليه ليس بصفته حالة طبيعية بل بالشطارة أو الغدر أو السلب أو السيطرة، مما يخلق نسيجاً اجتماعية أقرب للخراب.

"فغنرة العالم" اليوم في إفريقيا وأوكرانيا وسوريا وعدد من الدول الأخرى محاولة تجاوز جديدة للقوانين ومنطقة للسلاح المهرب وأسواقه السوداء، وكذلك إشارة إلى الفشل في تشكيل دولة ذات قوانين محددة تحافظ على مصلحة مواطنيها فتلجأ الأنظمة العسكرية إلى شركات دولية كحالة فاغنر لتقدم لها الحماية أو تشتري النصر على الآخر.

هل كانت شركة فاغنر لتنمو ويكون لها هذا الحجم من الحضور لولا وجود "بوتين" في الحكم؟ وما دور رعايته لها في هذا المجال؟ وهل هي نوع من أنواع الاحتجاج على القوة الغربية؟

إنْ قارناها بالشركات العابرة للحدود ذات الطابع الإيديولوجي الديني أو وسواه بماذا تختلف عنها؟ بالأهداف أم بأسباب التأسيس أم بالدوافع؟ أم بوعود الجنة الأرضية أو الجنة الأخروية؟

يفتح الاعتماد على شركة فاغنر أسئلة جديدة في حقل العلوم السياسية حول مفهوم مركزية الدولة وكيفية إدارة الحكم وأثر العسكرة والقوى الرديفة

هل تعد شركة فاغنر جزءاً من نظام التفاهة العالمي لكن بصورة عسكرية؟ وإلا كيف يتحرك قادتها وتتحكم بمصائر عدد من الدول؟ وهل الهدف منها إنتاج قوى بديلة عن الدولة أم مرادفة لها؟ وهل في شركة فاغنر عودة لمفهوم القوة العسكرية بعيداً عن سيطرة الدولة المباشر لفرض ما تريد بالقوة؟

يفتح الاعتماد على شركة فاغنر أسئلة جديدة في حقل العلوم السياسية حول مفهوم مركزية الدولة وكيفية إدارة الحكم وأثر العسكرة والقوى الرديفة، لكن هذه المرة بطريقة عكسية، فبدلاً من محاولة الدولة ضم القوى العسكرية وإدماجها ضمن أجهزة الدولة، تستحدث اليوم شركة فاغنر آليات جيدة حيث إن أنظمة الحكم تعتمد على الميليشيا أو المافيا لفرض سلطتها بل قد تستنبتها أو تجري معها عقوداً لتحقيق أهداف الحكم أو السيطرة على الأرض أو المشاركة في إركاع الشعب والسيطرة على ثرواته لصالح فئة قليلة من المستفيدين أو القوى العابرة للحدود كي يتم تكريس إيديولوجية أو تحقيق أحلام بائدة من إمبراطورية ما قبل الدولة كما حالة إيران، أو إيجاد أوراق تفاوض دولية جديدة أكبر من حجم الدولة عبر نظام الميليشيات، وإن صبغتها بأبعاد دينية أو محاور مقاوماتية.

 تكشف الصراعات التي تملأ المشهد العالمي تعقيداته واختلافاته، وأن ما ينطبق في هذه القارة أو تلك المجموعة الاقتصادية يختلف اختلافاً جذرياً عما ينطبق على تلك المجموعة الأخرى، وبالتالي يعقد الحديث عن نظريات سياسية أو عسكرية في إدارة الدول أو مفاهيم معظم تفاصيلها، نظراً للتباين الشديد فيما بينها واختلاف تجاربها، ومقدار المسافة التي قطعتها كل منها في مفاهيم بناء الدولة أو دور العسكرة وإدارة قوى المجتمع!