في مصير ملايين الإيرانيين والسوريين واللبنانيين

2020.06.28 | 00:01 دمشق

16.jpeg
+A
حجم الخط
-A

قُدّرت الخسائر المباشرة التي تكبدها لبنان في حرب 2006 بنحو عشرة مليارات دولار، تُضاف إليها الخسائر الناجمة عن تداعياتها في مجمل النشاطات الاقتصادية، إن في المشاريع الاستثمارية أو التجارية أو السياحية.. وهي تساوي أيضاً نحو عشرة مليارات دولار.

كان يمكن أن يؤدي ذلك إلى كارثة مالية ومعيشية، لولا تسابق الدول العربية، والخليجية منها خصوصاً، نحو مساعدة لبنان مالياً وإعمارياً. كما أن الاحتضان الفرنسي والأوروبي للحكومة اللبنانية، وفّر قنوات عديدة للمساعدات والدعم، على نحو جعل من أعوام 2007 – 2011، ذروة عهد الفائض المالي في خزينة الدولة، كما في موجودات المصرف المركزي، وحجم الودائع في المصارف الخاصة. وكان الدخل الفردي السنوي قياساً على الناتج العام يناهز 11 ألف دولار.

مع ذلك، بدأ الجميع يلاحظ، خصوصاً بعد انتخابات 2009، إن مزيجاً من طبقة سياسية فاسدة من جهة، وميليشيات حزب الله العنيفة والمتسلطة من جهة ثانية، كان يدفع بلبنان شيئاً فشيئاً إلى أن يصير دولة غير موثوق بها، سياسياً واقتصادياً. وابتداء من العام 2011، صار التباعد بين الدولة اللبنانية والدول العربية والمجتمع الدولي يتسع باطراد.

القرار العلني لحزب الله بالدخول في الحرب السورية وتلاشي الحدود تالياً بين لبنان وسوريا، بما كشف عجز الدولة عن الالتزام بمبدأ "النأي بالنفس" وفق ما وعدت به الدولَ العربية والمجتمع الدولي.. أدى إلى "خطف" لبنان بغتة إلى جحر محور "الممانعة". وقرار الاصطفاف في نسق السياسة الإيرانية والقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، عنى تحويل لبنان إلى دولة خصمة ليس فقط للإجماع العربي، بل للغرب عموماً.

وهذا ليس انزياحاً سياسياً وحسب، بل انقلاب بنيوي يطول الأسس التي قام عليها الكيان اللبناني بوصفه نتاج "تعاقد" بين جماعات وطوائف، يكبح جموح الذوبان في المحيط العربي، بقدر ما يلجم التبعية المطلقة للغرب. وعليه، هو بلد عربي يتطلع إلى الغرب، كما هو "الجسر" أو "البوابة" أو "النافذة". وعلى هذا كان ارتضاء الجماعات اللبنانية في العيش معاً وفق توازن هش ودقيق. والأهم أن هذا التعاقد قام على أسس دستورية، أبرزها اعتناق الاقتصاد الحر الرأسمالي والنظام الديموقراطي، وكل ما يكفل الحريات العامة والفردية.

ينبغي القول هنا أن كل ذلك يتبدد اليوم ويتهاوى، إلى حد التساؤل الجدي عما بقي من مبررات لبقاء الكيان. وهذا نتاج حتمي وطبيعي لما فعله حزب الله. إذ إنه عملياً، قام بتنصيب "أمينه العام" حسن نصرالله ولياً فقيهاً على الجمهورية، كسلطة متعالية غير قابلة للمعارضة وليست منتخبة أصلاً. ثم فرض "سياسته" أمناً وقراراً وحرباً وحلفاً.. واقتصاداً، كسياسة لبنانية رسمية.

وبلد باتت هذه هي أحواله، لا يجوز لسكانه الاندهاش أو الامتعاض من تبعات جملة الأفعال والقرارات التي أحالت لبنان دولة "مارقة". فإذا كان المبدأ الأخلاقي والقانوني يقول إن الرجل يتحمل عواقب أفعاله وخياراته، فهذا يسري على الدول والحكومات والجماعات. فمن يريد القتال إلى جانب الأسد لا يمكنه تناول الطعام على مائدة المجتمع الدولي، كما أن من يمتشق السلاح الإيراني لا يمكنه فتح حساب مصرفي بالدولار في "بنك أوف أميركا" مثلاً. وعموماً، لا يجوز للقاتل حضور مأتم ضحيته. هذا تناقض فظيع.

واقعياً، لبنان شريك بالحرب على الشعب السوري، وينخرط في سياسات عدوانية إيرانية في طول الخريطة العربية وعرضها. كما أنه على امتداد سنوات راح يوسع تباعده عن الدول العربية والأوروبية، فيما الامتعاض الأميركي يتعاظم إلى درجة القطيعة والعداوة.

تدهشني "دهشة" اللبنانيين مما آل إليه بلدهم، معزولاً ومنبوذاً ومأزوماً على جميع المستويات. إنه الإنكار لا الغباء، الذي يجعل اللبنانيين غير مصدقين ما أصابهم. وقد حدث هذا بالتزامن مع التحلل المديد للدولة وتضخم الفساد وعموميته بما استنفد احتياط ثرواته وأنهك موارده الاقتصادية. تلاقى نضوب هذه الموارد بسبب الفساد، مع استنزاف حزب الله للمقدرات الاقتصادية والمالية دعماً له ولنظام الأسد في حربهما، مع التوقف التام للمساعدات العربية والدولية، وهروب الاستثمارات والرساميل المحلية والعربية والأجنبية. هكذا ارتسمت صورة الانهيار المالي والاقتصادي، وتكشف الإفلاس الضاري. فبعد ثبات سعر الدولار على 1515 ليرة طوال ثلاثين عاماً، بات سعره (لحظة كتابة المقالة) نحو 7500 ليرة. التهاوي الدراماتيكي لسعر العملة اللبنانية والسورية والإيرانية في وقت واحد، يؤشر بوضوح إلى أمر واحد: محور الممانعة يدفع الثمن. ويبدو أن ذلك لن يتوقف قريباً.

إن محوراً معادياً عقائدياً للديمقراطية وللرأسمالية وهو خارج النظام الاقتصادي العالمي، لا يمكنه في الوقت نفسه أن يطالب بحرية حيازته للدولار الأميركي. ولأنه عاجز حتماً عن "ابتكار" نظام اقتصادي بديل، فهو لا يفعل سوى "إدارة الإفلاس".

إن جمهور "الممانعة" لا يسعه الاكتفاء بالقول أن أميركا شريرة. فمن يتبجح أنه يفجر ويضرب ويطلق الصواريخ ويفلت الميليشيات ويرتكب المجازر ويشن الحروب ليس بوسعه الامتعاض من رد فعل مساوٍ ومكافئ أو أسوأ. فمن يطلب الحرب لا يجوز له انتظار رشقه بالورود.

المعضلة الرهيبة، ليست في أن أميركا لن تبالي بجوع ملايين الإيرانيين والسوريين واللبنانيين، وحسب، بل إن من هم مسؤولون عن هذه الشعوب لم ولن يبالوا بالمآسي التي تصيبها. بل إنهم "يستثمرون" فيها ويطلبونها سياسة واقتصاداً وحرباً إلى يوم القيامة.