في ذكراه: عنهُ أيضاً وأيضاً

2023.06.15 | 07:30 دمشق

في ذكراه: عنهُ أيضاً وأيضاً
+A
حجم الخط
-A

قبل استشهاده بتسعة أيام تماماً، بُثّت للمرة الأولى أغنية الساروت الأخيرة "سوريا ظلّي واقفة". بعد استشهاده في الثامن من حزيران/يونيو 2019، رأى الكثيرون أن الساروت بأغنيته تلك، إنما تلا وصيته الأخيرة قبل أن يمضي إلى السماء، وهنا لن أسهب أكثر عن تلك الأغنية ولا عن صوت الساروت الذي بدا فيها حزيناً أكثر من كل مرّة غنى بها، فجميعكم سمعتموها.

كانت لحظة استشهاده والاهتمام الذي حظي به تشييعه، كواحد من أهم أبطال الثورة السورية، آخر مظاهر عنفوان الثورة، واحتشاد المشاعر الحقيقية المتأججة لدى جمهورها، ليبرد بعدها كل شيء، ويسيطر نوع من الإحساس باللا جدوى على معظمنا. بالتأكيد لم يكن فقد الساروت هو ما أدى لذلك الخمود، إنما هو مسار كان قد بدأ سابقاً وتجلّت نتائجه في تلك الفترة، وربما كان الساروت محظوظاً أنه استطاع أن يقدِّم الأمثولة البطولية الأخيرة قبل انطفاء كل شيء.

لم يكن بإمكان فتى الثورة الأجمل أن يغيّر من مقاديرها، فيما لو واتته الأقدار وعاش تلك التحولات الأخيرة التي أجهزت على كل أمل تقريباً، فهو بالنهاية ليس قائداً قادراً على جمع وحشد الناس في لحظة التحولات السياسية. كانت كل قدراته تتركز في أصالته وقدرته على جمع أحلام الناس ووجدانهم. جمعُهم على نموذج قلَّ نظيره ليس في الثورة السورية وحسب، بل في تاريخ الأبطال الأسطوريين. ببساطة كان يمكن له أن يكون قائداً في أزمان أخرى، حين كانت القيادة تحتاج فقط للبطولة والإقدام، كما في أساطير الإغريق.

بدا حالة إلهامٍ، أكثر من أن يكون قائداً يمتلك الرؤى حول الطريقة الفضلى، أو الكيفية الأسلم للانتقال إلى سوريا الحرّة التي راودته مع بدايات الثورة وبقيت معه حتى رحيله

اهتدى الفتى الأسمر بقلبه، وليس بحسابات الربح والخسارة، ولا بأيٍ من تكتيكات السياسة. كان يمتلك كل المقومات ليكون أسطورة للبطولة، دون أن يمتلك أياً مما يرتكز عليه السياسيون، من معرفة نظرية وخبرات، ليكونوا قادة يعبرون بمواطنيهم التحولات الكبرى. بدا حالة إلهامٍ، أكثر من أن يكون قائداً يمتلك الرؤى حول الطريقة الفضلى، أو الكيفية الأسلم للانتقال إلى سوريا الحرّة التي راودته مع بدايات الثورة وبقيت معه حتى رحيله، ومع ذلك لم يتزحزح يوماً عما اعتبره مهمته المركزية، وهي محاربة نظام الأسد باعتباره مُنطلق الشرور في سوريا. لم يفكر يوماً بشكل أناني، الخصيصة التي ظهرت لدى معظم القادة الذين يفتشون لأنفسهم عن حصة من الكعكة السورية.

لم يخطط لشخصه، ولجلب المريدين. فعل كل ما فعله، وقدم كل ما قدّمه بدوافع ذاتية، أملتها بساطته الشخصية، وصدقه مع نفسه أولاً، ومع رفاقه تالياً. ولن يغير في حال الساروت كل الاتهامات التي طالته من صفوف الثورة حول تحولاته، وبعضها صحيح. أما بالنسبة لموالي الأسد، فلم ينجوا من اتهامات هؤلاء حتى العلماني واليساري إن كان من أنصار الثورة، فهو تارة "يساري وهابي" وأخرى من "يساريي النصرة"، ومع جرعة زائدة من الوقاحة سيغدو من يساريي داعش، كتوصيف أكثر ملموسية في تلك الفترة. فكيف للساروت أن ينجو من هكذا اتهامات وهو المحافظ اجتماعياً ودينياً.

لم يحظَ استشهاد أي سوريّ في العصر الحديث، أؤكد في كامل عصرنا الحديث، بما حظي به الساروت، من الوقفات والتجمعات وإقامة صلاة الغائب على روحه في معظم أماكن شتات السوريين، وصولاً إلى انتقال المئات عبر الحدود لمواكبته في رحلته الأخيرة، قبل أن تستقر رفاته في قبر بسيط بقرية "الدانا". لم يكن هذا الاهتمام مصادفة، أو بترتيب من جهة ما. بل كان عفوياً فعلاً، حمل كل مبرراته بذاتهِ، محمولاً على سيرة الفتى الذي سكن ضمائر السوريين لسنوات.

بعد استشهاده، عاد حتى من انتقدوه في بعض تحولاته، ليُجمعوا تقريباً على أصالته ونبله وسجاياه الشخصية التي شكّلت تلك الحالة الفريدة،

السوريون المخذولون ما زالوا للسنة الرابعة يحيون ذكرى استشهاده من خلال تجمعاتهم. يعيدون بث أغانيه، ومراجعة سيرته التراجيدية التي لم يكن لها أن تسير إلا على النحو الذي سارت عليه وانتهت إليه. حتى لو لم يستشهد في تلك اللحظة، فلم يكن مقدّراً له أن ينضم لمن يحاولون تطبيع أرواحهم مع موازين القوى المستجدة، وعلى الأرجح كان سيخرج، ولو وحيداً، ليتم سيرته الأخلاقية في مواجهة نظام الأسد، ليموت وحيداً. شابٌّ عبَرَ عالماً ظالماً، لم يكن ليعيبه أنه لم يستطع تغييره، لكنه في كل لحظة من حياته كان يمتلك ما يكفي من النبل والشجاعة ليصرخ بأعلى صوته دون مواربة، أن هذا العالم ظالم، ثم يذهب إلى حوافّ الخطر ليحاول ما يستطيع.

بعد استشهاده، عاد حتى من انتقدوه في بعض تحولاته، ليُجمعوا تقريباً على أصالته ونبله وسجاياه الشخصية التي شكّلت تلك الحالة الفريدة، وجعلت سوريي الثورة يتوافقون على احترامها وتقديرها في أقل الحالات، وفي الأعم الأغلب الإجماع على تطويبه واحداً من أهم شهداء الثورة، الذي حظي بمواصفات أكسبته إياها الحياة دون زيف أو حتى تخطيط.

في حالة الساروت، ستبدو اليوم صفة "شهيد" أقل جائزة تُمنَح لمن ما زالوا يتألمون لفقده. لكن بعد عشرات السنوات ستُنسى الكثير من التفاصيل، وسوف يكفُّ الكَتَبةُ المزوّرون عن الحديث عن انتصار الأسد على السوريين. بل وسيسجّل جميع من سيكتبون عن هذه الحقبة، أن انتصاره كان أشد وقاحة من انتصارات هتلر وفرانكو وبول بوت وستالين، وسيدخل اسمه مع هؤلاء، على الأرجح بطريقة أكثر ضعةً. حينها لن يعرف أحفادنا ولا حتى أحفاد أنصار الأسد، ولن يتساءلوا: في أي ضفة كان أجدادنا؟ وسوف يفخرون جميعاً حين يقرؤون في كتاب التاريخ المدرسي أنه مرَّ في تاريخ سوريا بطلٌ له سيرة عبد الباسط الساروت. وقد يغنّون معاً فرحين"سوريا ظلّي واقفة"، دون أن يعلموا كم بكى أجدادهم وهم يرددونها.