في القبائل التي تخسر رهاناتها إذ لا تمتهن السياسة

2023.09.22 | 07:43 دمشق

آخر تحديث: 22.09.2023 | 07:43 دمشق

في القبائل التي تخسر رهاناتها إذ لا تمتهن السياسة
+A
حجم الخط
-A

 ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح، لماذا استطاعت البنى الاجتماعية ماقبل الوطنية من إثنيات وطوائف أن تدخل ميدان السياسة وتمارسها باستثناء القبيلة؟ ورب أكثر من قائل بمن فيهم كاتب هذه السطور؛ بأن القبيلة لا يمكن أن تصلح كحاملة لمشروع وطني، لكن مقولة عدم صلاحيتها مرهون بوضع محدد وسياق محدد ضمن الظرف السوري والشرط الدولي المتمسك بزمام الحل والإعضال، ولا تخرج القبيلة التي تشغل هوامش البلاد موقعا، واهتماما، وتنمية، من سائر البنى الاجتماعية التي شغلت المركز المديني والدولتي، في احتياجها للارتقاء في مستوى البرامج والتحديث؛ كسائر مستويات الوعي والعمل السياسي الذي يحتاجه شعب عانى التحييد عن الفكر والسياسة والفعل الاجتماعي المستقل، الأمر الذي يفتح الباب على جدلية عجز النخب وعطبها الذاتي؛ أو المفروض عليها للإبقاء على سائر البنى الاجتماعية؛ بدلا من عجز البنى التقليدية التي تم استيلادها وتأطيرها لتبقى مادون الدولة.

تحمل القبيلة دوما وزر من تبقى منها، وتخسر من خرجوا منها باعتبارهم انتموا لبنى سياسية أعلى فلا تحسبهم عليها وهم خرجوا من ربقتها كذلك، والمعضلة أنها بقيت خارج حساباتهم واهتماماتهم أو فعلهم في الارتقاء بها، على الرغم من أنه ومع موجة استنكار القبلية والطروح المتعالية نجد أن أغلب الأحزاب تذهب نحو القبيلة بحثا عن رصيد تنتفع به.

تمتلك القبيلة حق البقاء الوجودي الاعتباري كثقافة وتقليد، لكنها تخسر وجودها السياسي وفعلها كجزء من حراك شامل يحيط بها، لأنها لم تندغم ضمن حراك كلي إذ لم تجد فعلا سياسيا يؤطرها

ثمة رأي يقول إن القبيلة أساسا هي أحد أشكال العمل السياسي، وإذا سلمنا بهذه المقولة سنجد أن القبيلة خاضت السياسة متخيلة نفسها كلاعب سياسي؛ في حين كانت موضوعا لها وأداة ليس أكثر، والحال ليس بعيدا عن أي أقلية سوى أن الأقليات حققت قفزة مهمة؛ وهي اعتبار كل من ينتمي لها جزءا منها فحاولت اللحاق به ثقافيا وسلوكيا، فأعطت قيمة لمن يتفرد منها بجهد ثقافي أو فني أو سياسي، الأمر الذي جعلها تتجاوز قبائليتها؛ وفتح المجال لتشكل نخباً جديدة قد تتجاوز الطائفة نحو أفق وطني؛ وقد تتعالى على الوطني وتندفع بجهد أممي كما حصل لدى أحزابنا الماركسية إبان فورة ظهورها في النصف الثاني من القرن المنصرم.

تمتلك القبيلة حق البقاء الوجودي الاعتباري كثقافة وتقليد، لكنها تخسر وجودها السياسي وفعلها كجزء من حراك شامل يحيط بها، لأنها لم تندغم ضمن حراك كلي إذ لم تجد فعلا سياسيا يؤطرها، في حين أن كل من خرج منها هو جزء من حراك كلي شمولي، وقد ساعدت ظروفٌ تاريخيةٌ الطوائفَ والأقليات العرقية لتكون متجاوزة لتلك العتبة ولاعبة سياسية، وأوشكت أن تتجاوز دلالة تعريفها كذلك؛ لولا أن ظروفا سياسية وسياقات مصطنعة في مرحلة الكولونيالية حاولت إعادتها لمرحلة سابقة على الدولة وعملت أنظمة الحكم على ذلك وكرسته، يكمن الفرق في القبيلة بعد تفرق أبنائها وخروجهم عن أرومتها كحامل لمشروع ولو جزئي؛ في عجز هؤلاء عن الوصول إلى بناها القارة المتبقية؛ والتي لا تتقن سوى التعويل على حمولتها العصبية وإرثها التاريخي ومخيالها، وتقاعسوا في أن يجعلوا بناها المتبقية هذه تعمل ضمن أطر تتفق واقتحام ميدان السياسة؛ كجماعات تختلف فيما بينها في مستوى البرامج السياسية، وتتدرج في فعاليات اجتماعية واقتصادية وسياسية تنقلها من اللاسياسة إلى السياسة، فبقيت الجماعات ذات الحامل القبلي في وجودها وفعلها عزلاء بلا أفق أو تجربة، خصوصا وهي تمارس نمطا ثابتا من النشاط الاقتصادي الريفي، ولعل المعضلة في مجتمعاتنا المشرقية العربية ونتيجة لسياسة الأنظمة الشمولية التي خلفت الاستعمار، فحاولت تدجين القبيلة واستيلادها وتكريسها وجعلها وسيطا بين الدولة والفرد، مع تصويرها ثقافيا أنها ما قبل دولتية وغير قابلة للتطوير، في حين نجد في مجالات أخرى خارج الإطار العربي، وفي بلاد تبدو أكثر "بدائية" و"تخلفا" في أفريقيا وأوغندة يكتب المناضل "جومو كينياتا" أن النظام الديموقراطي كان معمولا به قبل الاستعمار الإنكليزي، وفي تجربة قبيلة "الكيكويو" بنت القبيلة الدولة في كينيا، ووقفت ضد الاستعمار وهي من فاوضه على الجلاء، في حين في أفغانستان وباكستان لعب مجلس القبائل "لويا جيرغا" الذي لعب دورا في حماية البلاد ومارس السياسة في الحرب والسلم والتفاوض منذ عام 1747م، في المجال العربي وعبر دراسة دولة المرابطين والحركة السنوسية ودول الخليج؛ نجد أن تجمعا قبليا بأرومة واحدة أو اثنتين أدى إلى تشكيل الدولة من مجموع القبائل كلها، فهل تصلح مقولة التوزع المشتت المتنوع لقبائل كثيرة دون تسيد واحدة أو اثنتين مدخلا لفهم الوضع السوري وحتى العراقي؟ فالقبائل الموزعة وبكثرة دون وجود رابطة الأصل الواحد جعلها متخالفة ولا تشكل ثقلا، فصارت تبحث عن حصة لها بالدولة بدلا من تشكيلها، ثم دخلت في مرحلة التجاذب السياسي مع السلطة؛ فعملت الأخيرة على تفتيتها أكثر فتشظت مع إبقائها على رابطة الدم والثأر والأعراف ضمن العرف القبلي، مع رسوخ غريزة البقاء والحفاظ على النوع تفرض على مشيخاتها المهادنة وعدم إدخال القبيلة في حرب تفنيها.

لعل السياق التاريخي والفعل لا يختلف بين الطرفين، فالسياق الذي نشطت به قبائل أفريقيا عايشته قبائل سوريا والعراق؛ وماثلته في نشاطها ضد المستعمر في الوسط القبلي، وكان متسقا مع الحالة الثورية العامة والنشاط المديني في المراكز الحضرية بدمشق وبغداد؛ بل وازنا في تفعيل مشاركة قوة الأطراف الريفية التي مثلت متنفسا للحركة والفعل الثوري ضد المستعمر، لكن قياس تلك المرحلة - ثورات التحرير- يختلف عن السياق الحالي الذي تلعب به قوى دولية وأقطاب دولية متناحرة، ما شكل ضغطا على بنية متبقية من تاريخ قديم وذهنية خارج السياسة، ولا تحترف سوى التحشيد الذي يلزم لثورة أو لحرب ويعجز عن ممارسة سياسة تدير أيا منهما.

تحمل الأكثرية شعور الاسترخاء والتحقق؛ لذا فهي تبقى أقلية سياسية إن كانت خارج معادلات السياسة، في حين أن الأقلية تحمل النزوع نحو التحقق والتحصن وانتهاز الفرص وتوثيق البقاء، لذا تشكل أكثرية سياسية عبر ما تضمره من خبرة قدرة حركة وتحول وفهم سياسي.

في مجلس الشعب كان نظام الأسد حريصا على استيلاد القبلية وتكريسها عبر أعضاء المجلس وإضافتهم لقائمة الحزب الحاكم في "قائمة الظل" تتضمن شيوخ القبائل مالم يجد منهم من كان في البعث أصلا

هل لعب تقسيم العمل كما نظر له "دوركايم" في انتقال قبائل لتشكيل الدول في أفريقيا؟ بالنظر للواقع السوري شكل انعدام التنمية في الجزيرة سببا في عدم الانتقال نحو النشاط المديني، مع وجود سلطات كرست القبلية أو ضغطت عليها لاستنهاض آليات الدفاع العفوية التي تنحصر ضمن أدوات القبيلة في العصبية، ففي مجلس الشعب كان نظام الأسد حريصا على استيلاد القبلية وتكريسها عبر أعضاء المجلس وإضافتهم لقائمة الحزب الحاكم في "قائمة الظل" تتضمن شيوخ القبائل مالم يجد منهم من كان في البعث أصلا، إن الأطراف غير الخاضعة لحالات تنمية وتطوير ونهضة، وفي بيئة لا تقسيم للعمل فيها ولا ميدان لقواعد تشابك وشبكات ثقة خارج أطرها لا بد أن تبقي على رأسمالها الرمزي واستحضار الثقافة القبلية، مع وجود أثر مهم هو تمثل ثقافات قبائل الخليج وأطراف العراق، حيث يظهر تأثير صور القبيلة في الخليج العربي مع قوى المال وهجرة اليد العاملة، وعودتها مع ثقافة مشيخية أو قبلية تستحضر أو تتمثل تلك الثقافة البدوية غالبا، حيث تبدو القبيلة براقة ولامعة هناك، لدرجة أنها أصبحت وسما ينظر له بغبطة أو بحسد من قبل مشايخ قبائلنا، فتكرست رغبة في الوصول لمرتبتها مع ملاحظة أن القبيلة في الخليج هي نسق موجود شكل المدينة والدولة لاعتبارهما تشكلان نسقا وحيدا يختلف عن السياق السوري المتعدد الأنساق والبنى ومجالات المدينة والريف، لنجد أن الدولة هناك تركت القبيلة تبحر كيفما تشاء ما دامت لا تصطدم بالحكم وأدواته، ترى لو أن المثقفين من البيئات القبلية قرؤوا عن مجلس اللوياجيرغا وتشكله من مرجعيات القبائل وشيوخها ووجهائها ومثقفيها، للاضطلاع بدور وطني هل سيفكرون بالعودة لقبائلهم ليرتقوا بها ويجعلوها مجالا لعمل سياسي وطني في مناطقها بدلا من التحشيد المنفعل؟