في الدفاع عن الليبرالية وفضح الرأسمالية

2024.03.13 | 06:36 دمشق

في الدفاع عن الليبرالية وفضح الرأسمالية
+A
حجم الخط
-A

في أثناء لقائه الأخير مع صحفي روسي تحدث بشّار الأسد عن التمسّك بـ "المصالح الوطنية" وعن أن الشعب سيقدّر ذلك ولو كان مختلفاً - مع الزعيم- في السياسات؛ "فالموضوع الوطني هو الذي يجمع النّاس"، كما يقول.

وعن سؤال ملغوم -ربّما - عن الفرق بين الطاغية وبين الرئيس الديمقراطي يجد بشّار نفسه في مواجهة مع ضرورة العودة إلى الشّعب لتحديد "المصالح الوطنيّة" فيلتف على السؤال، ويبدأ يرثي لحال المواطن في الدول الغربيّة، إذ يعيش ذلك المواطن -في نظر بشّار- في ظل نظام رأسمالي متوحّش، لا يترك للمواطن سوى حق الاقتراع -يقصد الانتخاب- فيما الدولة لا تخدم المواطن بشكل مباشر، بل هي ليست موجودة لخدمته إنّما لخدمة الشركات؛ وفي سبيل استكمال خلطة تيئيس المستمع من جدوى الديمقراطيّة، تساءل: عن جدوى مظاهرات الشعوب الغربية ضد حروب دولها في الشرق الأوسط في التأثير في القرار السياسي لبلدانها؛ فالشركات الكبرى متحكّمة -بشكل غير مباشر- بخيارات المواطن، بل إنّ الشركات هي من ترسم السياسات، وتضغط على الناخب الغربي عبر "الإعلام، النبوك، النفط، السلاح"!

وكم تمنّى امرؤ سوري -لو كان كوبيّاً مثلا- ليصدّق كلام بشّار في الدفاع عن "المصالح الوطنية أولا وثانيا وعاشرا" كما ادّعى؛ لكنّ الواقع المرّ يظل يحد من خيال المرء!

ومثل هذا الخطاب عن المصالح الوطنية، ومقارعة الرأسماليّة، يمكن أيضاً أن يلقى صدى لدى يساري غربي، يقرأ لنعوم تشومسكي أو لميشيل فوكو وهما يحلّلان أدوات الشركات الكبرى في التأثير على خيارات مواطن غربي حريّة خياره مقدّسة، فسواء أكانت المخابرات الروسيّة قد تمكنت بالفعل من الاستيلاء على بيانات ملايين الناخبين الأميركيين، والاستفادة من تلك البيانات للتأثير في خيارات الناخب الأميركي ليختار ترامب -كما جرى تناقله- سواء أكان ذلك حقيقة أو لا؛ فإنّ التأثير على أمزجة الناس عبر الإعلام، أو الشبكة العنكبوتيّة، أو النخب الثقافيّة غيرها وارد وممكن بالفعل، بل إنّ مثل هذا يمكن أن يكون قد مورس علينا نحن السوريين؛ لكن لا لتوجيهنا لانتخاب بشار الأسد- فهذا كانت تتكفّل به أجهزة أمن النظام مباشرة- إنّما لتحويل ثورتنا لأجل الحرية إلى حرب أهليّة!

فهل هذا ما يمكن أن يعترف به بشّار الأسد؛ أم أنّ حرية السوريين هي المؤامرة التي يمكن أن يقصدها؟!

بالمقابل لماذا يمكن أن تكون مثل هذه التأثيرات على حريّة الناخب جريمة في الغرب؟

ألأنّ حريّة الإنسان مقدّسة هناك!

نكران جرائم الاحتلال الأميركي للعراق -على سبيل المثال لا الحصر- أمر غير أخلاقي قطعا؛ لكن بناء على ماذا يمكن إدانة تلك الاحتلالات والجرائم؟

إذا كانت الإجابة الأخيرة؛ فلعلّنا إذن بصدد التساؤل عن توفّر نظام مدني آخر -غير الديمقراطيّة الليبرالية- يمكن أن يقدّر حريّة المواطنين ويبني عليها منظومته الحقوقيّة والقيميّة داخل الحدود الوطنيّة للدول.

لكن بالمقابل؛ يمكن أن يصدُق - ليس بشار فحسب- بل كل اليساريين والتراثيين والليبراليين أيضاً في وصف جرائم السياسة الخارجية للدول الغربيّة؛ فنكران جرائم الاحتلال الأميركي للعراق -على سبيل المثال لا الحصر- أمر غير أخلاقي قطعا؛ لكن بناء على ماذا يمكن إدانة تلك الاحتلالات والجرائم؟ بناء على حق نخب تلك البلدان بالتسلّط على شعوبها؛ أم بناء على حق الشعب -كل شعب- بالحرية والمساواة في الكرامة الإنسانيّة؛ إذ لو كانت الإدانة مبنيّة على حرية الشّعب -بوصفهم أفرادا سادة ومستقلين؛ متساوين ومساوين لغيرهم من الشعوب في الحريّة والكرامة- لكنّا إذن من جديد قد وقفنا على عتبة ليبراليّة؛ فتلك القيم المدنيّة ليبراليّة؛ لا رأسماليّة!

حسنا لنحاول تحديد النموذج الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ لكن ضمن سياقة التاريخي، ولنحاول رصد موضوعة "السلطة" على وجه الخصوص لأنها محور يكشف الفرق بين النماذج: إذ كانت السلطة -السّيادة- في النموذج ما قبل الحداثي مستمدّة من الميتافيزيقي، والميتافيزيقي يمثله رجل الدين؛ ويجسّده الملك، وطبقة النبلاء "السّادة".

بعد تعيين الواقع المادي ميداناً للمصالح؛ فإنّ المؤسّسة المدنيّة -الليبرالية أساساً- بُنيت على قيمتي "الحريّة والمساواة"، وعلى تصور لثلاثة مستويات للوجود:

الأول طبيعي مادي - غير ميتافيزيقي- منه وعليه تستند التصورات الأوليّة عن حقوق إنسان حر ومساو في الحرية لغيره؛ في حين أنّ الحقوق المدنيّة متطوّرة -عبر عقد اجتماعي- عن تلك الطبيعيّة، لكن ليست كل المصالح المدنيّة يمكن أن لا تأتي متناقضة حد التضاد؛ لذلك جاء المستوى السياسي لحل الاختلافات دون اللجوء إلى القوّة والعنف كفاعلية حق طبيعي -والإشارة الأخيرة غاية في الأهميّة-.

حسنا: أين الرأسمالية؟

الرأسمالية ليست الليبراليّة؛ لكن التنظير للمساواة الطبيعية بين النبلاء وبين الناس العاديين مرّ على تأكيد "حق التملّك"، إذ مثّل الاعتراف بهذا الحق - بحسب الخصوصية الثقافة والسيرورة التاريخية للمجتمعات المسيحيّة في الغرب- اعترافاً بالمساواة في الحرية والسيادة والسلطة بين النبلاء وبين عامة الشّعب.

ميشيل فوكوياما استند إلى فلسفة هيغل لتأكيد بلوغ الذروة الحضارية في نموذج الدولة الديمقراطية الليبراليّة؛ تلك التي نفت كل التناقضات داخل مجتمعاتها، دون اللجوء للقوة، إلّا أنّ إمكانية العثور على تناقض للنظريّة، خارج حدود تلك المجتمعات والدول، لايزال، مع الأسف، ممكناً.

اعتقد فوكوياما -استنادا لفلسفة هيغل- أن التناقضات بين السيّد "النبيل" -ذلك الذي حصل على سيادته عبر القوة- وبين العبد، انتهت بأنّ السيد ارتأى -بعقلانيّته- أنّ اعتراف العبد به يقلل من سيادته؛ لذلك فضّل السيد أن يحصل العبد على الحريّة؛ ليعترف سيّد بسيّد!

وفيما ظل السّيد الجديد - العبد - يطلب عبر عمله المساواة، فيحظى بها حتى بنى المجتمع والدولة المدنيّة الديمقراطيّة الليبراليّة؛ فإنّ "ثيموس" بعض السّادة -نموذج السيد القديم برأينا- ظل "طموحاً" يطلب مزيداً من السيادة، ولأن الدولة الليبراليّة ما كانت لتحد من طموحه فقد تبنّت توجيه ميوله نحو التّجارة عوضاً عن القتال!

استراتيجيات "الرأسمالية المتوحّشة" لا يمكن أن تُطبّق -بصورة بالغة التوحّش - على شعوب تمتلك حقوقاً وصوتاً انتخابيّاً، بينما يمكنها بسهولة عقد صفقات مع نخب محليّة، تحكم شعوبها بالحديد والنّار

أمّا الربط بين نزوع الجمهوريين الأميركيين، مثلا، نحو الحرب، وبين مفاهيم من مثل "حريّة التجارة" وتجارة السّلاح، وإدغام أخرى كـ "الدفاع عن الديمقراطية - المصالح – القيم - في الشرق الأوسط"، بحيث يمكن أن يبدو كل من يتمسّك بمصالحه بالفعل مناهضاً لقيم والديمقراطيّة.. إلخ هذا ما يمكننا ببساطة إضافته إلى سيرورة لم تستكمل نفي كل تناقضاتها - كما زعم فوكوياما-، وقد يصلح هذا التحليل لينسحب على كثير من السياسة الخارجيّة للدول غربيّة؛ ما يمكننا نحن – الشعوب التي تتعرّض لتلك السياسات، لا الأنظمة- أن نسمّيه رأسماليّة متوحّشة.

ولعل من أكثر الفرضيات مجاجة ولا منطقيّة واحدة طالما ربطت بين "الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان" وبين مصالح رأسماليّة، ذلك أنّ استراتيجيات "الرأسمالية المتوحّشة" لا يمكن أن تُطبّق -بصورة بالغة التوحّش - على شعوب تمتلك حقوقاً وصوتا انتخابيّا، فيما يمكنها بسهولة عقد صفقات مع نخب محليّة، تحكم شعوبها بالحديد والنّار طالما أن سلطة تلك النّخب ومصالحها ليست متأتية ولا مرتبطة بالشعب الذي تسيطر عليه، ومثل هذه المصلحة المشتركة بين نخب حاكمة -أو أخرى تسعى للحكم بوسائل غير ديمقراطيّة- وبين مصالح رأسمالية متوحّشة، لا يكمن أن تصب أو أنّ تسمح ببلوغ الشعوب الحرية والديمقراطيّة؛ بل هي تبعث ديكتاتوريات وقوى أمر واقع؛ جميعها يحذّرنا من أن نكون كالشعوب التي تعيش بخير!