فورين بوليسي: لابد أن يحدث شيء ما في سوريا بعد الحرب

صور بشار الأسد معلقة على مركز انتخابي في مدينة دوما - التاريخ: 26 أيار 2021

2023.02.02 | 18:26 دمشق

نوع المصدر
Foreign Policy- ترجمة: ربى خدام الجامع

ستدخل الأزمة السورية عامها الثالث عشر في آذار المقبل، ولكن على الرغم من أن مستوى العنف في عموم البلاد مايزال اليوم منخفضاً نسبياً مقارنة بحاله في السنوات السابقة، إلا أن الأزمة السورية لما تنته بعد. إذ في الداخل السوري هنالك ما لا يقل عن ستة نزاعات متمايزة تنخرط فيها جهات فاعلة محلية وحكومات دول أجنبية وماتزال تلك النزاعات دائرة حتى اليوم، بيد أن كل نزاع من تلك النزاعات يكشف عن المزيد من العلامات والعوارض التي تشير إلى تصعيده بدلاً من تهدئته.

ماتزال سوريا بلداً مدمراً، فقد انقسم المجتمع فيها وتشظى، كما بقي نظام بشار الأسد منبوذاً على المستوى الدولي، وكل استبيان لاستطلاع آراء اللاجئين السوريين في دول الجوار مايزال يؤكد على عدم وجود أي نية بالعودة إلى سوريا التي يحكمها الأسد، وفي عام 2022، ارتفعت موجة الهجرة السورية غير الشرعية إلى أوروبا بنسبة 100%، ومن المرجح أن يكون ذلك نذيراً لما سيحدث في عام 2023.

تحولت سوريا إلى خبر قديم عفا عليه الزمن بالنسبة لكثيرين، باستثناء ما يتعلق بالحملة المستمرة على تنظيم الدولة. إذ خلال السنوات الماضية، أصبح من الشائع أن تسمع بين الناس من يقول بـ إن: "الأسد انتصر"، وبـ إن: "الحرب قد وضعت أوزارها". بيد أن تلك التأكيدات لم تكن دقيقة في عام 2019 حتى تكون دقيقة اليوم، سواء أكان دافعها التعب أو تحليل صادق للوضع. إذ مع اقتراب الانتخابات في تركيا، وحرب روسيا على أوكرانيا، وأزمة الطاقة في إيران، والعمليات العدائية المستمرة المرتبطة بإيران، أصبحت التوقعات المرتبطة بتطورات تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في سوريا خلال هذا العام مهمة جداً.

وهنا لابد لنا أن نعترف بأن التحذيرات من ظهور موجات اضطراب وفوضى جديدة في سوريا ليست بجديدة، إلا أنه من المؤكد لعام 2023 أن يكون عاماً مليئاً بانعدام الاستقرار بسبب تغير قواعد اللعبة، وعلى الرغم من أن التطورات الفريدة تنحصر بتركيا، إلا أنه من المرجح لروسيا وإيران أن تسهما في إحداث تغيرات مهمة، وأهم ديناميكية تتصل بشكل منطقي بكل ذلك تتعلق بالاقتصاد وتحديداً بالوضع داخل مناطق النظام.

ضربات قاضية للاقتصاد السوري

على الرغم من أن سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها الأسد بلا هوادة ليبقى في السلطة قد وجهت ضربة للاقتصاد السوري عملت على إنهاكه منذ عام 2011، إلا أن هذا الاقتصاد كان يسير بتؤدة نحو الانهيار منذ عام 2019، وذلك عندما أثرت أزمة السيولة النقدية المدمرة في لبنان على الجارة سوريا كما تؤثر الضربة القاضية على الخصم في حلبة المصارعة. كما أن طريق الاقتصاد السوري نحو الانهيار بات أقصر بداية مع تفشي جائحة كوفيد-19 ثم بعد ظهور الآثار العالمية للغزو الروسي على أوكرانيا، وآخرها بعد التراجع الاقتصادي الحاد الذي تعيشه إيران.

مع دخول عام 2023، أصبح الانهيار الاقتصادي في سوريا خارج سيطرة النظام، إذ ماتزال نصف البنى التحتية الأساسية في البلد مدمرة، كما أن 90% من الشعب السوري يعيش اليوم تحت خط الفقر، و70% منهم يعتمد على المساعدات الأجنبية. وقبل عام على ذلك، كان الدولار الأميركي الواحد يعادل 3600 ليرة سورية، أما اليوم فقد أصبحت قيمته 6850 ليرة سورية. وخلال هذا العام وصلت الميزانية الوطنية في سوريا إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. إذ عندما حاول النظام تخفيف الضغط على العجز في الميزانية، فرض حسومات جديدة على المواد الأساسية المدعومة بنسبة بلغت قيمتها الحقيقية عالمياً 40%.

بعد مرور أكثر من عقد على تراجع الظروف المعيشية، أصبحت تلك الظروف اليوم هي الأسوأ في مناطق سيطرة النظام، فاليوم الذي يعتبر يوم خير في العاصمة السورية دمشق هو اليوم الذي ينعم فيه الناس بالكهرباء لمدة تتراوح ما بين ساعتين لثلاث ساعات، في الوقت الذي بات فيه أغلب الناس في سوريا يستعينون بقشور الفستق الحلبي والبلاستيك بل حتى الروث كمصادر للتدفئة. ومع التضخم أصبح متوسط قيمة الراتب الشهري في دمشق اليوم يعادل 100 ألف ليرة سورية (ما يعادل 15 دولاراً)، بيد أن تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أشخاص أصبحت تتراوح ما بين 2.8 مليون ليرة (نحو 427 دولاراً)، و4 ملايين ليرة (نحو 611 دولاراً)، أي بزيادة وقدرها 5800% عما كانت عليه في عام 2015.

أزمة الوقود وأزمات أخرى

في الوقت الذي ارتفعت فيه تكاليف المعيشة في عموم أنحاء سوريا لبعض الوقت، بلغت تلك الزيادة ذروتها في مناطق النظام منذ أواخر عام 2022 بعدما قررت إيران أن تضاعف من سعر النفط الذي تورده إلى سوريا (ليصل سعر البرميل الواحد إلى 70 دولاراً)، كما طالبت النظام بالدفع مسبقاً بدلاً من الاعتماد على الدفع بالدين كما جرت عليه العادة طوال فترة الأزمة. ونتيجة لتلك السياسة (التي كانت الأزمة الاقتصادية في الداخل الإيراني هي المحرك لها)، تراجع عدد شحنات الوقود التي تصل إلى سوريا بنسبة 52% ما بين شهري تشرين الأول والثاني من عام 2022، وبعد ذلك بثلاثة أشهر، أرسلت إيران كميات وقود أقل من تلك التي أرسلتها إلى سوريا خلال شهر تشرين الأول من عام 2022 وحده. ولقد انطلقت آخر باخرة إيرانية تحمل النفط إلى سوريا في كانون الأول الماضي، ويبدو أنه لا سفينة أخرى ستبحر إلى سوريا حاملة معها النفط الإيراني قبل حلول شهر آذار، ما يعني بأن أزمة الوقود في سوريا في ذروة فصل الشتاء ما هي إلا بداية.

لم توفر الميزانية السنوية سوى 30% من احتياجات سوريا من الوقود لعام 2023، إلا أن ذلك تم بوساطة ما تورده إيران والذي كان يكلف نصف ما يكلفه اليوم، ولهذا كان لهذا الانخفاض الحاد في الواردات ورغبة إيران بالحصول على ثمنها عبر الدفع نقداً أثر كارثي على مناطق النظام في سوريا. إذ في غضون ثلاثة أشهر، ارتفعت أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسبة 30% وسعر الوقود بنسبة 44%. وأصبح الراتب الشهري بأكمله يشتري حالياً نحو غالونين من الغاز، ومع ارتفاع أسعار التنقلات وأجور الكهرباء الإضافية إلى مستوى عال، لم يعد بوسع الناس الوصول إلى أماكن عملهم، ولهذا أغلقت المعامل والمخابز أبوابها، وانهارت صناعة الألبان والأجبان، وتم تخفيض أسبوع الدوام إلى أربعة أيام. ولو لم تقم روسيا بسرقة الحبوب الأوكرانية بكميات كبيرة خلال عام 2022، لأصبحت سوريا في عين أزمة أخرى تتصل بالقمح وتشل اقتصادها.

مصادر  جديدة للدخل عبر الابتزاز الممنهج

للأسف لم تعد المعاناة غريبة عن السوريين، بيد أن ما يحدث اليوم في مناطق النظام لم يسبق له مثيل، كما أنه ظهر في الوقت الذي انخفضت فيه نسبة الأعمال العدائية. ومع اختفاء الطبقة الوسطى في سوريا ورحيل العمال المهرة، أفرز هذا الوضع ضغوطاً هائلة. وكما هي الحال في اقتصادات الحرب، أصبح من حمل السلاح يمارس إرهابه على من لم يحمل السلاح، سعياً لتحصيل مصادر أخرى للدخل، إذ ذكرت مصادر تعيش في مناطق النظام بأن هنالك ابتزازاً ممنهجاً للمشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة من قبل قوات الأمن التابعة للنظام. إذ بسبب الجشع والفساد، وأيضاً بسبب حاجة النظام الملحة لملء خزائنه التي فرغت، تحول المئات من نخبة رجال الأعمال التابعين للنظام إلى رهائن مقابل فدية، بعدما تعرضوا لهزات وتهديدات تنذر بزوالهم منذ عام 2020.

زادت حدة حالة عدم الاستقرار، وتحولت محافظة درعا جنوب البلاد إلى أكثر منطقة ينعدم فيها الاستقرار في سوريا، وبالقرب منها هنالك محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، والتي بقيت فيها المظاهرات الشعبية تخرج طوال سبعة أسابيع في مركز المدينة لتطالب بتغيير سياسي وإصلاحات اقتصادية وإطلاق سراح الآلاف من المعتقلين السياسيين والتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية عبر التفاوض. كما زادت نسبة تعبير الناس عن غضبهم ونقمتهم على فساد النظام وعدم كفاءته، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل حتى أشد الموالين للنظام شرعوا بالتحقيق في قضايا فساد، ما أدى لاختفاء بعضهم قسرياً.

النظام ودولة المخدرات

في الوقت الذي دفع فيه الانهيار الاقتصادي السوريين الذين يعيشون في كنف النظام إلى حافة الانهيار، أصبح النظام أشد ثراء مما كان عليه في أي وقت مضى، إذ بالرغم من صدور العديد من التقارير الاستقصائية، ماتزال شخصيات تابعة للنظام فرضت عليها عقوبات دولية تتلقى ملايين الدولارات من أموال الأمم المتحدة. وبحسب دراسة نشرت مؤخراً، تم تحويل ما لا يقل عن 140 مليون دولار من ميزانية المشتريات لدى الأمم المتحدة في عام 2019 و2020 إلى هيئات تملكها شخصيات من أمثال ماهر الأسد ونزار الأسد وسامر فوز وفادي صقر أو مرتبطة بهم، وكل هؤلاء فرضت عليهم عقوبات لتورطهم بجرائم حرب أو لوجود ما يربطهم بتلك الجرائم.

ولكن مع عزل النخبة المحسوبة على الأسد عن الاقتصاد العالم، اتجه النظام للمخدرات كمصدر استثنائي للدخل، فتحولت سوريا إلى دولة مخدرات لها وزنها على مستوى العالم. إذ في عام 2021، تمت مصادرة كميات من أمفيتامينات سورية الصنع تعرف باسم الكبتاغون لا تقل قيمتها عن 5.7 مليارات دولار أميركي، في عموم الشرق الأوسط وصولاً إلى السودان وماليزيا ونيجيريا. وبحسب مسؤولين في مجال الاستخبارات في تلك المنطقة، تمثل المواد المصادرة نسبة تقدر ما بين 5-10% فقط من تجارة المخدرات في سوريا، ما يعني أن قيمة تلك التجارة في عام 2021 بلغت 57 مليار دولار على أقل تقدير، أي ما يزيد بتسعة أضعاف على حجم ميزانية سوريا، وبأضعاف مضاعفة عن إيرادات عصابات المخدرات في المكسيك. وبكل تأكيد لا يصل أي شيء من تلك الأموال للشعب السوري، بل يتم من خلاله ملء جيوب النخبة الثرية الموالية للأسد فحسب.

تضخم مخيف لسلطة الفرقة الرابعة

وبفضل الدور الريادي الذي لعبته الفرقة الرابعة من قوات النخبة التابعة للنظام السوري في تجارة الكبتاغون الضخمة، تحولت تلك الفرقة إلى كيان يتمتع بسلطة كبيرة وقوة لا تدانيها أي قوة أخرى في البلد، إذ بدأت تلك الفرقة التي يترأسها ماهر شقيق بشار الأسد خلال الأسابيع الماضية بمد نفوذها بشكل كبير ضمن مناطق سيطرة النظام، حيث فرضت سيطرتها بحكم الأمر الواقع على كل طرق التهريب التي تربط بين سوريا ولبنان والأردن، كما بسطت هيمنتها على كل الطرق الرئيسية في غربي سوريا وجنوبها. وفي خضم ذلك ظهرت نزعة لتجنيد عدد كبير من الشبان ضمن تلك الفرقة وذلك ليقوموا بالوقوف على حواجز التفتيش التي تنتشر عند تفرعات شبكة الطرقات الموسعة تلك، بشكل يضمن مرور المخدرات عبر تلك الطرق بكل سلاسة، إلى جانب الاحتكار الفعلي للرشوة التي تحولت إلى أمر اعتيادي بالنسبة لأي مسافر يتنقل داخل البلد.

في الوقت الذي لم يبد فيه الاقتصاد السوري عند انهياره أي علامة تدل على تباطؤ أو تراجع ذلك الانهيار، تبدو الأشهر المقبلة حبلى بعوامل قد تؤدي إلى انفجار حاد وخطير في البلد. ولكن النظام وبكل بساطة لم تعد لديه أي ورقة ليلعب بها بهدف تحسين الأوضاع، كما لم تعد إيران أو روسيا في وضع يساعدهما على إنقاذ الموقف. وهذا ما قد يفسر سبب سعي روسيا لبحث فكرة العودة للتعامل مع تركيا، لأن تحقيق تقدم من هذا القبيل بوسعه أن يغير قواعد اللعبة فيما يتصل بكسر العزلة المفروضة على الأسد. ولكن، على الرغم من كل الخطاب والآراء التي تشير إلى إمكانية حدوث هذا التقارب، لا يوجد سبب يدفعنا لتصور قيام تطبيع حقيقي في العلاقات بين الطرفين.

بمعنى أصح، يبدو بأن هذا المسار المريع للأحداث والظروف متواصل ومستمر ومن المحتمل أن يتسارع أيضاً، وفي الوقت الذي لا يرجح أحد فيه فكرة العودة للحرب المفتوحة، فإن الوضع الراهن لا يمكن أن يبقى على حاله، ولهذا لابد وأن يحدث شيء ما على هذا الصعيد.

المصدر: Foreign Policy