icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: حرب بوتين قتلت الدبلوماسية في سوريا.. فما الذي يجب فعله؟

2022.03.16 | 14:11 دمشق

بوتين مع وزير دفاعه شويغو
بوتين مع وزير دفاعه شويغو
فورين بوليسي - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

إن الغزو الروسي لأوكرانيا وما نجم عنه من انهيار للعلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وبين موسكو من جهة أخرى يعني بأن الدبلوماسية في سوريا أصبحت ميتة، إذ ظهرت مؤشرات ضئيلة أوحت بإمكانية تجديد الاستثمار في تلك المساعي في مطلع عام 2022، إلا أنها جميعاً أضحت بمنزلة ذكرى بعيدة بعد الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا.

وهكذا ألفى المجتمع الدولي نفسه وسط بيئة استراتيجية جديدة بشكل واضح، حيث أصبحت المؤسسات والآليات القائمة منذ أمد بعيد والتي تضم أطرافاً عديدة وتعتمد على الوساطة وعلى خفض التصعيد عاجزة، إذ لم تكن هنالك قيمة كبيرة لمجلس الأمن الدولي قبل غزو أوكرانيا، إلا أنه أصبح بلا أي قيمة بعد ذلك الغزو.

ومما زاد الطين بلة، هو أن الحرب الروسية على أوكرانيا قد تتسبب بوقوع أزمة إنسانية في سوريا تفوق كل ما شهدته تلك البلاد طوال السنوات الإحدى عشرة الماضية بأشواط، في الوقت الذي يركز فيه العالم على المعاناة المتزايدة في أوكرانيا، ويتعرض فيه انهيار سوريا وسط احتمال تعرضها لمآس أعمق وأشد لخطر التجاهل، مما قد يساعد على ظهور موجة جديدة من آثار تزعزع الاستقرار في عموم أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا وما بعدها.

استراتيجية "التجميد والبناء"

وللتكيف مع هذه البيئة الجديدة، يتعين على المجتمع الدولي التفكير بتغيير شامل في موقفه تجاه سوريا، حيث تولى عملية تجميد خطوط النزاع القائمة أولوية كبرى إلى جانب الاعتماد على استخدام استراتيجي أكبر للمساعدات، ونشر الاستقرار، والتوجه نحو إعادة إعمار المناطق الخالية من حكم بشار الأسد، وهذه الاستراتيجية القائمة على "التجميد والبناء" والتي رُسمت ملامحها ضمن ورقة بحثية حول سياسة جديدة بتفاصيل أكبر، قد تعتبر بمنزلة ابتعاد جريء عن القواعد والمبادئ التي توجه عملية الاستجابة الدولية الحالية للأزمة السورية، إلا أن الحالات غير المسبوقة تتطلب تكيفاً على مستوى أكبر.

يسيطر نظام الأسد حالياً على ثلثي سوريا تقريباً، إلا أن هذه الرقعة الكبيرة ما تزال غير مستقرة إلى حد بعيد، حيث تنتشر فيها الجريمة، ويظهر فيها أمراء الحرب، إلى جانب الاحتجاجات المحلية، والتمرد الكامن، وكل تلك الأمور يغذيها الانهيار الاقتصادي الحاد ويمدها بأسباب الحياة والظهور. أما الثلث المتبقي من سوريا فتسيطر عليه المعارضة السورية وقوى إسلامية في شمال غربي البلاد، وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقيها.

على الرغم من استمرار وصول الأموال بكميات قليلة عبر خطوط السيطرة في الشمال، إلا أن هدنات وقف إطلاق النار القائمة بحكم الأمر الواقع بقيت على حالها طوال العامين الماضيين على الأقل. إذ لدى الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم تركيا، مصلحة واضحة ليس فقط في الاحتفاظ بحالة التجميد تلك، بل أيضاً في ضمان الاستعانة بنشر القوات الموجودة في شمال غربي سوريا (أي القوات التركية)، وشمال شرقيها (أي القوات الأميركية والقوات المتحالفة مع الولايات المتحدة).

مصير آلية تمرير المساعدات بعد غزو أوكرانيا

بعيداً عن تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا القاتل على العملية السياسية في سوريا، يبدو هذا الغزو بمنزلة تهديد قاس لآلية الأمم المتحدة التي تسمح بتمرير المساعدات عبر الحدود حتى تصل لنحو أربعة ملايين مدني يعيشون في شمال غربي سوريا، إذ ستخضع تلك الترتيبات للتصويت في مجلس الأمن الدولي خلال شهر تموز القادم، ويبدو أن روسيا عازمة على عرقلة هذا القرار، وهذا بدوره سيؤدي وعلى الفور إلى ظهور حالة نقص تتراوح ما بين 75-80% في الأغذية التي يتم تأمينها لإطعام 2.4 مليون مدني يعتمدون على تلك المساعدات الغذائية بشكل كامل، مما يهدد بظهور مزيد من الأعمال العدائية إلى جانب موجة لجوء كبيرة أخرى.

وبصرف النظر عن تمرير المساعدات عبر الحدود، تواجه سوريا اليوم مجاعة بسبب الضربة القاصمة التي أصابت ما تستورده من قمح، بما أن القمح يعتبر مادة غذائية أساسية لدى الشعب السوري. إذ نتيجة لسنين عجاف تعاقبت على البلاد، كان من المتوقع أن يصل محصول القمح المحلي في سوريا إلى ما دون ربع متوسطه في عام 2022، إلا أن توريد روسيا للقمح بكميات لا غنى عنها بالنسبة لسوريا أضحى اليوم شبه مستحيل، بل حتى جهود برنامج الغذاء العالمي لتزويد سوريا بالقمح أصبحت طي النسيان عملياً، بما أن أوكرانيا كانت المصدر الرئيسي لهذه المادة، لكنها أوقفت اليوم جميع الصادرات.

بعد ارتكاب الأسد لأي جريمة حرب ممكنة وأي جريمة أخرى ضد الإنسانية، استطاع أن ينجو بنفسه بمساعدة كبيرة من قبل الروس، لكنه يقف اليوم على أطلال وخرائب دولة، كما أن نظامه وأجهزته الأمنية المتوحشة تقف اليوم كرادع ومانع قوي أمام عودة عدد كبير من اللاجئين. ومع قيام نزاع في أوكرانيا، لابد وأن يتفاقم الوضع المزري للاقتصاد السوري المدمر بالأصل كما من المرجح للتحديات الإنسانية التي تواجه تلك البلاد أن تزيد، وبما أن روسيا منشغلة بأوكرانيا اليوم، فضلاً عن أنها تحولت إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي، لذا قد يعتري الأسد ضعف شديد من جراء ذلك.

السياسة الدولية البناءة أصبحت ضرورة

حان الوقت الآن لتغيير السياسة المنفعلة ذات الأمد القصير التي تقوم بتضميد المشكلات بدلاً من معالجتها، بسياسة بناءة تسعى لإحلال الاستقرار في كل المناطق السورية ولتعزيز الثقل الدبلوماسي لكل المجتمع الدولي هناك.

بادئ ذي بدء، ينبغي على روسيا وحلفائها إبقاء قواتهم التي تم نشرها هناك حتى تقف في وجه تنظيم الدولة، مع استمرار فرض العقوبات العقابية على نظام الأسد، ومواصلة وتوسيع جهود المحاسبة عبر آليات متعددة الأطراف ومن خلال الاعتماد على الولاية القضائية الشاملة في أوروبا، إلى جانب ممارسة حالة المنع الدبلوماسية للجهود التي تبذلها حكومات دول المنطقة، كحكومة الإمارات والأردن، الساعية للتطبيع مع الأسد والسماح له بالعودة إلى حضن المجتمع الدولي من جديد.

عبر الالتزام بسياسة الصبر الاستراتيجي، يتعين على الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يسعوا لخلق واقع جديد في الشمال السوري بكامله حتى يقف بالتوازي وبتناقض صارخ مع شكل الحياة التي يقدمها نظام الأسد في المناطق التي يسيطر عليها.

من خلال ترسيخ السيطرة المحلية لكيانات لا تتبع للأسد في عموم الشمال السوري، والاستثمار في المساعدات ونشر الاستقرار والتمويل المخصص لعمليات إعادة الإعمار ضمن المجتمعات المحلية، يمكن أن تسنح أمام الولايات المتحدة ومن يفكر مثلها من حلفائها فرصة لتعزيز معنى الاستقرار بصورة أكبر ولدعم حالة الانتعاش في المناطق الحيوية على المستوى الاستراتيجي في الداخل السوري.

ولتوضيح المسألة عبر استخدام مصطلحات فجة يمكن القول بإنه يتعين على المجتمع الدولي أن يقضي على الاستراتيجية القائمة على توفير الخيم والبطانيات والسلل الغذائية والانتقال إلى استراتيجية تعتمد على إنشاء وتشييد منازل شبه دائمة للنازحين، مع توفير فرص استثمارية للمشاريع الصغيرة وللزراعة بالإضافة إلى تأمين موارد مستدامة مثل الطاقة الشمسية، إذ يمكن لمجموعة مؤلفة من حكومات ووكالات إغاثية أن تقوم بتقديم تلك المساعدات، إلا أن الدور المحوري يجب أن يكون من نصيب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في شمال شرقي سوريا، وكذلك لرئاسة إدارة الحالات الطارئة والكوارث التركية في شمال غربيها.

وسعياً لخلق ذلك الواقع، يمكن لسياسة "التجميد والبناء" أن تدعم حلاً دولياً جامعاً كما بوسعها أن تزيد من النفوذ الدولي الساعي للتوصل إلى تسوية دبلوماسية نهائية، حالما تصبح الظروف ملائمة للقيام بذلك.

نافذة صغيرة ضيقة

إن السعي لإنجاح سياسة "التجميد والبناء" لا بد وأن يحتاج لقرارات جريئة ولدبلوماسية راسخة، خاصة مع تركيا، وذلك لأن الدور الذي تمارسه الآلية الدولية لتمرير المساعدات عبر الحدود أصبح على وشك النفاد، وأي مساعدات استراتيجية أو أي جهود لنشر الاستقرار لابد وأن تحتاج إلى تنسيق وثيق مع تركيا. وبالرغم من التحديات الموجودة بالأصل التي تهدد العلاقات الثنائية مع أنقرة، إلا أن أوكرانيا فتحت نافذة واضحة بالرغم ضيقها للعمل بسرعة وتصميم على استغلال التوتر الحالي الذي يعتري علاقة تركيا بروسيا، ومن المرجح لتلك المحاولة أن تقربها من فلك السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة في سوريا.

إعفاء الشمال السوري من العقوبات

ولدى الغرب فرصة أيضاً للاستفادة من الجالية السورية المنفية في الشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة، وتحديداً فئة رجال الأعمال وأصحاب المشاريع وهي فئة كبيرة ولديها موارد كثيرة، وغالبيتها يرغب منذ مدة طويلة باستثمار أموال طائلة في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد. ولتمكين قيام تلك الجهود المساعدة على المستوى التجاري، لا بد وأن تحتاج الولايات المتحدة وأوروبا لتقديم إعفاءات من العقوبات في كامل الشمال السوري، بما أن هذه الخطوة الجريئة قد أشبعت نقاشاً وجدالاً منذ مدة طويلة من قبل بعض الدبلوماسيين.

أصبح أمام المجتمع الدولي اليوم خياران بالنسبة لسياسته تجاه سوريا، أحدهما أسهل من الآخر، بما أنه يقوم على إبقاء الوضع الراهن على حاله، ففي أحسن الأحوال، تصبح هذه المقاربة أشبه بحالة من يحاول تفادي المشكلات قدر الإمكان، أما في أسوأ أحوالها، فيمكن أن تتحول إلى سياسة تضمن انحسار النفوذ بصورة تدريجية إلى جانب مسارعتها لقراءة الفاتحة على روح أي قرار مفيد قد يظهر مستقبلاً. وبالمقابل، يمكن للعالم أن يقر بأن العملية الدبلوماسية في سوريا قد أصيبت بالشلل حالياً وذلك للحفاظ على نفوذ المجتمع الدولي وتعزيزه متى عادت تلك العملية للحياة، وهنا ينبغي على الغرب تجميد خطوط النزاع إلى جانب التعامل مع المساعدات بصورة استراتيجية.

بالرغم من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يكون بمنزلة دافع للتحول في السياسة بالصيغة المذكورة آنفاً، إلا أن هذا الدافع المحفز قد يمثل في الحقيقة تكيفاً استراتيجياً صار ضرورياً وواجباً منذ مدة طويلة، وذلك لأن تأمين الضمادات والإسعافات الأولية لكثير من أعراض الأزمة السورية لم يكن حلاً مستداماً، ولا يمكن له أن يكون كذلك، على الأخص اليوم.

المصدر: فورين بوليسي